السماء تمطر جنوداً

بعد توديع القائد -بدأت أمارس قيادتى.. فوجدت عدداً كبيراً من رجال(الشرطة العسكرية) محشورين فى غرفة الحرس -ولما سألت عنهم علمت أنهم كانوا مرسلين لتعزيز حرس القيادة غير أنالفصيلة (أ) قد قابلتهم عند النقطة (ب) المبينة بالكروكى- أى على قيد خطوات من باب القيادة وأن (عبد المجيد شديد) اشتبك معهم وجردهم من سلاحهم ووضعهم فى هذه (الحجرة) وسمعت واحداً منهم ينادينى بأعلى صوته، فلما اقتربت منهم وجدته (جاويشا) من الشرطة العسكرية.
جمعتنى به ظروف الخدمة فى السودان سنة 1950 -فوجه الى قوله فى غضب واحتجاج يا سعادة البك احنا مش فاهمين حاجة- وانت تعلم أننا طول عمرنا رجالك فلماذا نعامل على هذه الصورة، وهل نحن من جبش (اسرائيل)؟ وانك لتعلم أننا رجالة وأننا نكن لك الحب والاحترام.. أم هل نسيت موقفنا منك فى الخرطوم؟.. وفى الحقيقة لقد كان موقف هذا الجاويش فى الخرطوم مثالا للشجاعة والتضحية -فلقد كنت فى خلاف شديد مع القائد هناك وكنت أعمل (أركان حرب القوات المصرية بالسودان) -وكان القائد على علاقة حسنه (بالسراى)- على الرغم من أننى كنت على جانب الحق وكان خلافى معه لأمور تتعلق بسمعة القوات المصرية بالسودان وبسمعه مصر -وما أصابها من تصرفات القائد- فان الأوامر قد صدرت بنقلى من الخرطوم.. وجاء هذا الجاويش ومعه كل رجال الشرطة العسكرية لتحيتى ووداعى فى منزلى قبل سفرى مع ما فى ذلك من تعرضه لسخط القائد الذى كان بحكم صلته (بالسراى) يستطيع أن يفعل ما يشاء.
ووجدت أن الجاويش على حق -وأنا فى حاجة الى كل جندى يزيد قوتى- وهو يعرض نفسه ورجاله ليكونوا فى خدمتى ويقول انهم لا يفهمون شيئاً مما يجرى.. فماذا لا أفيد من وجودهم، وأصدرت أمرى باخراجهم من غرفة الحرس فوراً وتسليمهم أسلحتهم ووزعت عليهم واجبات الحراسة ووفرت بذلك عدداً من جنودى أستخدمهم فى الدافع وتعزيز موقعى فى القايدة- حيث كان الأمر يتطلب ذلك، وما كنت أفرغ من هذا العمل بتوزيع رجال الشرطة العسكرية على بعض الواجبات حتى شعرت أن قوتى ما تزال فى حاجة الى مزيد.
وفى هذه اللحظة -جاءنى رسول من قبل الفصيلة (أ) بأن ضابطا برتبة الصاغ ومعه قوة يطلب مقابلتى فوراً- فأذنت له بالحضور فما جاء حيانى وقال: أنا صدرت لى أوامر تليفونية من أركان حرب القيادة العامة بأن أحضر ومعى 50 جندياً مسلحين بالبنادق ومع كل منهم 100 طلقة وسأتلقى الأوامر هناك (فى مبنى القيادة) فأجبته -وأين الجنود فقال: محتجزين عند باب السوارى- فأمرته باحضارهم- ولما جاء بهم وزعتهم على واجبات الدفاع- وبذلك أصبحت قوتى لا بأس بها وأحسست بأننى أصبحت قادرا على أن أفعل شيئاً.
وهكذا وجدا أن الله سبحانه وتعالى قد سخر لى كل جندى تحرك فى هذه الليلة سواء بأوامر الأحرار أو أوامر الأشرار لتكون فى خدمة الثورة وتزيدنى قوة فى موقفى الذى كان يعلم وهو علام الغيوب أنه انما كان خالصاً لوجهه وللوطن العزيز.
وعلى الرغم من أننى كنت أعلم أن حالة النزيف الذى أعانى منه تتطلب الراحة التامة -وان كل مجهود جسمانى يعرضنى للخطر فان العبء الذى ألقته المقادير على كتفى جعلنى أبذل جهدا شاقا وكانت الجاكته التى أرتديها تتضح بالعرق وشعرت بحاجتى الى شئ من الراحة- فجلست على الدرج الحجرى الطويل الذى يتصدر مبنى القيادة العامة.. وجلس (حسن أحمد الدسوقى) بجانبى.
ساد جلستنا صمت لبعض الوقت قطعته بتساؤلى: هل تضم سببا لتأخير القوات الأخرى عن القيام بدورها؟.. فأجابنى (حسن) أنها لم تتأخر ولكن أنت الذى تقدمت -فلم تكد تحين ساعة الصفر بعد.. وسألته فى عجب: كم هى ساعة الصفر فيما تعلم؟ فأجاب: أنها الساعة الواحدة من صباح اليوم 23 يوليو.
وكانت هذه أول مرة أعلم فيها أننى قمت قبل ساعة الصفر بساعة كاملة ولقد كان الضابط (زغلول) ضابط ويعلم أن التقديم فى الوقت مضر كالتأخير تماماً خصوصاً اذا كان بوقت طويل (فساعة كاملة) تعتبر وقتاً طويلا فى مثل هذه الظروف، ومع ذلك فانه حضرنى وأنا أجمع ضباطى قبل انتصاف الليل وأصدر اليهم أوامرى -ثم رآانى وأنا أستولى على (اللورى) وأضع جنودى فيها بعد أن خطبت فيهم فكشفت لهم عن العمل الكبير وهيأتهم لاستقباله ولم يحرك ساكنا- ولم يعترض على هذا التبكير.. كل ذلك جعلنى أعتقد أننى تصرفت حسب الخطة الموضوعه وأننى تحركت فى موعدى المحدد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق