يوسف صديق..الفارس الغائب


بقلم بهيجة حسين
جريدة الأهالى 1995/7/26

فارس حمل روحه على كفه وأطلق الرصاصات الوحيدة التى أطلقت فى ليلة 23 يوليو عام 1952 كان يحمل يقينا بتحقيق حلمه بوطن أكثر جمالا وانسانية وعدلا وحرية لنا ولأجيال لم تولد بعد.
بحثت عن الفارس الزميلة بهيجة حسين فلم تجد تمثاله مع تماثيل أعضاء مجلس قيادة الثورة فى المتحف الحربى بالقلعة وكان السؤال الذى ظل بدون أجابة.. أين تمثال يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة؟!!
نعم غاب تمثال يوسف صديق عن تماثيل رفاقه فى المتحف الحربى ولكن الفرسان والنبلاء لا يغيبون، لم نر يوسف صديق نحن أبناء الجيل الذى ولد مع ثورة يوليو ولكننا قرأنا أن فى الوطن رجالا ومنه تعلمنا كيف يكون تصرف الرجل.
كان كثيرون من أبناء الجيل الذى قامت الثورة من أجله فى معتقلات للسادات عام 1975 وكان أحد المعتقلين محمد ابن يوسف صديق وبعد أعتقاله آثار البعض على يوسف صديق أن يقدم التماسا للسادات للافراج عن ابنه فكان رده حاسما بالرفض، وقال: ومن يقدم التماسا للافراج عن باقى الشباب، لقد اعتقل ابنى معهم وسوف يخرج معهم.

رصاص الثورة

تحرك البكباشى يوسف صديق مساء يوم الأربعاء الموافق 23 يولية سنة 1952 بقواته من الهايكستب الى مبنى رئاسة الجيش بكوبرى القبة وكان أحد الضباط الأحرار قد كشف سر الثورة، وكان رئيس أركان حرب الجيش يعقد اجتماعا فى رئاسة الجيش لأصدار أوامره لمقاومة الحركة فأسرع يوسف صديق الى مقر الاجتماع على الفور وهاجم القيادة وقبض على رئيس اركان حرب الجيش وعلى معظم القواد الذين كانوا فى طريقهم اليه وكذلك ألقى القبض على القوات التى أرسلت لتعزيز الحراسة على رئاسة الجيش فقضى بذلك على المقاومة وأصبح للضباط الأحرار الأمر فى البلاد، وكانت رصاصات يوسف صديق هى الرصاصات الوحيدة التى أطلقتها ثورة 23 يوليو، حيث حاول رئيس أركان الجيش المقاومة فأطلق نيرانه على قوات يوسف صديق فردت قواته على نيران الحرس بنيران حامية وقتل اثنان من الحرس وأصيب ثالث، وكان دور البكباشى يوسف صديق دورا حاسما لنجاح الثورة، وهو الذى قال عنه محمد حسنين هيكل عملاق طويل عريض لفحته الشمس فى معسكرات الجيش فجعلته أشبه ما يكون بتمثال من البرونز لفارس محارب مدرع من القرون الوسطى دبت فيه الحياة.
هذا هو يوسف صديق الذى يقول عنه لواء عام القوات المصرية الفلسطينية فى رسالته المرسلة من رئاسة القوات المصرية بفلسطين من الجدل فى 1948/7/25 الى قائد اللواء الثانى مشاه لقد لاحظت الملاحظات الآتية التى أريد أن تنال عناية عزتكم: كتيبة البنادق السابعة المشاه كتيبة "يوسف صديق" انى اعتبر المواقع الدفاعية لهذه الكتيبة مثالا يحتذى به وتوزيعها ينطبق تماما على أصول التكتيك الأمر الذى يجعلنى أسجل شكرى لقائدها وأتعشم أن يحاول جميع القادة الوصول بكتائبهم الى هذا المستوى.

معركة الديمقراطية

كان وهو يحمل روحه على كفه متقدما نحو تحقيق حلمه من أجلنا يرى الحلم واضحا ويرى أنه لن يتحقق بدون الديمقراطية وكان موقفه وكانت معركته الأولى من أجل الديمقراطية وليست الأخيرة وسجل فى مذكراته كان طبيعيا أن أكون عضواً فى مجلس قيادة الثورة وبقيت كذلك حتى أعلنت الثورة أنها ستجرى الانتخابات فى شهر فبراير سنة 1953، غير أن مجلس قيادة الثورة بدأ بعد ذلك يتجاهل هذه الأهداف، فحاولت أكثر من مرة أن أترك المجلس وأعود الى صفوف الجيش فلم يسمح لى بذلك حتى ثار فريق من الضباط الأحرار على مجلس قيادة الثورة يتزعمه اليوزباشى محسن عبد الخالق فأيدت الثأئرين، فأبعدت الى أسوان سنة 1953، وكان مجلس قيادة الثورة قد خدعه مستشاروه المضللون فما هل شهر فبراير 1953 الذى كان محدداً لعودة الحياة النيابية الا وكان مجلس قيادة الثورة قد اعتقل الضباط الثائرون وحاكمهم وسجنهم، وأصبح واضحا أن الثورة قد أنحرفت، واتصلت بالبكباشى جمال عبد الناصر تليفونيا من أسوان وطلبت منه أن يعتبرنى مستقيلا.
لقد كان يوسف صديق مدافعا عن الديمقراطية وعودة الحياة النيابية، والتعددية الحزبية ويؤكد على موقفه الأصيل من الديمقراطية عندما وقعت فى مصر أزمة مارس عام 1954 عندما نادى المحامون والطلاب بحل مجلس قيادة الثورة، وبالحياة النيابية، وأكد فريق من الجيش يتمثل فى سلاح الفرسان على هذا الموقف ووقف خالد محيى الدين يدافع عن الديمقراطية، وتأتى رسالة البكباشى يوسف صديق الى اللواء محمد نجيب بصفته رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء والحاكم العسكرى العام آنذاك، تأكيداً على موقفه فيقول فى رسالته، فلا شك أنكم تقدرون مدى المسئولية التى أتحملها معكم أمام التاريخ عن مصير هذه البلاد. نتيجة للعمل الايجابى لعنيف الذى قمت به فى يوم 23 يوليو سنة 1952، والذى لا أستطيع أن أفلت من مسئوليته حتى بعد استقالتى من مجلس قيادة الثورة فى فبراير سنة 1953، وبالرجوع الى التاريخ الذى علمناه من يوم 23 يوليو سنة 1952 الى أن وصلنا لهذه الحالة. نلمس أنه بعد طرد فاروق من البلاد فى 26 يوليو سنة 1952، بدأ مجلس قيادة الثورة مناقشة الخطوة التالية التى كانت تتلخص فى هذا السؤال "لمن الحكم؟" وكان هناك رأيان فى الجواب عن هذا السؤال، أما أحدهما فكان يرى دعوة البرلمان المنحل ليباشر سلطته الشرعية، وأما الآخر فقال بعدم دستورية هذا الحل ورأى أن تذهب مذهبا آخر، استقر الرأى على أستفتاء قسم الرأى بمجلس الدولة مجتمعا لهدايتنا الى التصرف الدستورى السليم فأفتى بأغلبية تسعة أصوات ضد صوت واحد بعدم دستورية دعوة البرلمان، الصوت الواحد للدكتور وحيد رأفت، سرنا على هدى هذه الفتوى ووصلنا الى الحالة السيئة الراهنة وتبين لنا أننا ضللنا الطريق، بعد أن تبين لنا بوضوح أننا قد ضللنا الطريق، فلا يكون هناك تصحيح للوضع سوى أن نعود الى حيث نجد أن علاج الموقف ينحصر فى أحد حلين لا ثالث لهما، دعوة البرلمان المنحل ليتولى حقوقه الشرعية أو تأليف وزارة ائتلافية تمثل القيادات الساسية المختلفة القائمة فعلا فى البلاد، وهى الوفد والاخوان المسلمون والاشتراكيون والشيوعيون تشرف على أجراء انتخابات للبرلمان فى أسرع فرصة حتى تختار البلاد حكامها الشرعيين ويعود الجيش الى ثكناته واقترح أن يكون رئيس الوزارة المقترحة هو الدكتور وحيد رأفت الذى اكتسبه الحوادث التاريخية هذا الحق فلا تكون الرياسة محلا للخلاف.
والبكباشى يوسف صديق وهو الذى قال فى خطبة لضباطه "أن الروح المعنوية هى أمضى أسلحة القتال والجندى لا يمكن أن يكون ذا روح معنوية عالية الا اذا كان مقتنعا بالهدف، والهدف لا يثبت بعقل الجندى وروحه الا بالنقاش الحر والفكر المفتوح الذى تسود فيه الديمقراطية وحرية الرأى.
ودفع ثمن دفاعه عن الديمقراطية غاليا ففى عام 1953 أبعد عن مصر بتسفيره الى سويسرا بدعوى العلاج وعاد منها سراً الى بلدته زاوية المصلوب مركز الواسطى محافظة بنى سويف وبعد رسالته الى محمد نجيب فى أزمة مارس اعتقل فى أبريل عام 1954 بالسجن الحربى واعتقلت زوجته، وأفرج عنه فى مايو 1955 وظلت اقامته محددة حتى أكتوبر عام 1956 وعندما وقعت مؤامرة العدوان الثلاثى ارتدى ملابس الميدان وقدم نفسه للدفاع عن تراب وطنه الذى لا يتوانى لحظة فى الدفاع عنه والبذل من أجله فهو يوسف صديق الذى أصيب بنزيف فى الرئة ليلة ثورة يوليو وحاول عبد الناصر منعه من الخروج حتى لا تسوء حالته الا أنه رفض وأصر على الخروج ليؤدى دوره وواجبه تجاه وطنه.

يوسف صديق شاعرا

أنا من بلاد رواها النيل فى كرم وفى وفاء كساها اجمل الحلل.
التحم المقاتل بالشاعر فكان يوسف صديق الفارس مقاتلا وشاعراً.
فهو القائل:
إنا وهبنا للجهاد نفوسنا
لا نبتغى رتبا ولا أطماعا
والمؤمنون المخلصون يزيدهم
ظلم الحوادث شدة وصراعا

ومنه نتعلم من مواقفه ومن شعره.
عندما قال:
عار الوظيفة أن نضام بها اذا
كنا الرجال ولم نكن أتباعا
ونفرس أهل الحق تأبى حرة
وعزيزة أن تشترى وتباعا

ولا ينسى يوسف صديق وقود الحروب فمن أجلهم خرج على رأس  قواته ومن أجلهم حارب من أجل الديمقراطية ومن أجلهم أمن بالاشتراكية وأخيراً يقدم لهم اهداء كتابه -الاسلام والمسلمون فى الاتحاد السوفييتى "الى أرواح الذين سقطوا فى المعارك ليزيدوا من أرباح تجار الحروب".
من يمكن أن يرد جزءا مما قدمه لنا يوسف صديق؟ نعرف أنه لم يكن ينتظر جزاء الا يعد عدم وجود تمثاله فى المتحف الحربى أعتداء عليه بل وعلينا نحن أيضاً؟
فمن حقنا أن نعرف من هم صناع تاريخ هذا الوطن ومن هم فرسانه؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق