وفى أبريل سنة 1954 قام الرفاق باصدار الأوامر للقبض على والدى، وأرسلوا له أحد تلاميذه ظنا منهم بأن هذا يحط من قدرة ليقوم بعملية القبض عليه فما كان من هذا الضابط الا أن يقوم بالتحية العسكرية وأن يحمل لوالدى الحقيبة التى بها ملابسه ويوصله الى سجن الأجانب، حيث قمت بزيارته فى اليوم التالى مع شقيقى محمد وأخبرنا أن بالسجن عدد كبير جدا من رجال السياسة والفكر والصحافة، ثم نقل بعد ذلك الى السجن الحربى حيث وجد الأميرالاى أحمد شوقى وعدد من ضباط الاخوان المسلمين مثل عبد المنعم عبد الرءوف ومعروف الحضرى وأبو المكارم عبد الحى وحسين حموده وكانت الفوضى متمثلة فى اعتقال الاخوان الى الحد الذى كانت ادارة السجن توزع على المعتقلين أوراقا لتسجيل أسمائهم وتاريخ حضورهم، وقد أمضى والدى سنة وشهر فى السجن الحربى، وفى هذه الفترة عاصر التعذيب الشديد الذى وقع على قيادات الاخوان المسلمين وأعضاء جماعتهم، وكنت أزوره كل أسبوع فكان يقص علينا ما يحدث من أشبع أنواع التنكيل ما فاق كل تصور وما لا يتصوره عقل، وفى احدى هذه الزيارات لوالدى بالسجن الحربى بعد أن اعترف أعضاء الجهاز السرى بأسماء زملائهم وبالتنظيم كاملا وتم القبض على جميع الأعضاء وكان الناس يلومون القيادة لهذا الاعتراف، قال أبى أنه رأى بنفسه العذاب الشديد الذى وقع على هؤلاء القادة من الجلد الذى كان يتطاير فيه لحمهم الى اطلاق الكلاب التى تنهشهم الى سحلهم بالخيل، ولم ينطقوا بحرف واحد ولم يعترفوا الى أن جاءوا بزوجة (هنداوى دوير) وكان شابا صغيرا وكانت زوجته ببلدتها لتضع مولودها فأتوا بها الى السجن الحربى وخلعوا ملابسها أمامه ووضعوها على الروسة وقاولا له أنهم سيفعلون معها ما فعلوه به، فطلب منهم أم يرجعوها الى بلدتها وقام بالاعتراف الكامل على النحو المعروف بعد ذلك، وفى آخر كل زيارة لأبى فى السجن الحربى كان يعطينا كيسا كبيرا به عدد كبير من الخطابات التى كتبها المعتقلون الى ذويهم لكى أرسلها عن طريق البريد حتى يعرفوا مكان الاعتقال، وطبعا هذا يوضح الناحية الانسانية التى يقوم بها والدى من خدمة هؤلاء المعتقلين رغم اختلاف رأيه ومبادئه مع هذه الجماعة، ولأنه الوحيد الذى كان معه جهاز (راديو) فى السجن، فقد كان يسمع الأخبار ويقوم بتحرير جريدة من صفحة واحدة وينسخ منها 4 نسخ على يده ويوزعها على العنابر الأربعة الموجودة بالسجن وبهذه الجريدة موجز لأهم الأنباء وكان أهمها فى ذلك الوقت الأحكام التى كانت تصدر من المحاكم العسكرية باعدام عدد كبير من الاخوان والتى كانت تخفف الى الأشغال الشاقة المؤبدة، وكان يسمع تهليلهم فرحين صارخين عندما تصلهم الجريدة بأخبار الأشغال الشاقة المؤبدة، ويعلق ضاحكاً "ولاد الكلب فرحانين بالتأبيدة".
وقد عبر والدى عن هذه المرحلة الرهيبة بالسجن الحربى بثلاث قصائد الأولى "فرعون" هاجم فيها عبد الناصر ووصفه بفرعون وبأنه دعى لبس المسوح وضلل الشعب وقتل الشباب وخان العهود هذه القصيدة هى أعنف ما كتبه فى السجن وفيها أعلن غضبه على الدكتاتورية، والقصيدة الثانية (المجد الزائل) يسخر فيها من عبد الناصر لاعتقاله النساء ويتوقع له زوال المجد الذى بناه على أشلاء المظلومين، والقصيدة الثالثة (استقبال الصديق) حيث أنجبت ولدى يوم 4 يناير سنة 1955، وكان والدى معتقل بالسجن الحربى وكان زوجى فى سجن القناطر ينتظر محاكمته عسكريا لدى محكمة "الدجوى الشهيرة" فرأيت أن أسمى ابنى "يوسف صديق" حيث أن تاريخ ميلاد والدى 3 يناير سنة 1910، وأخذت وليدى الى سجن القناطر ليراه والده ثم أخذته الى السجن الحربى ليراه جده، فكانت هذه القصيدة التى تصور الى أى مدى كانت حالته النفسية فيقول:
أقبلت تسعى من الظلماء للنور
فأسلمتك دياجير لديجور
أشرق بنورك فالأيام حالكة
من هول ما اقترفت فيناق من الجور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق