بقلم لطفى واكد
مجلة الأهالى 1991/3/27
منذ حوالى نصف قرن من الزمان وجدت نفسى طالبا بالكلية الحربية، وكان ذلك بسبب ظروف واعتبارات وملابسات لا داعى لذكرها لانها ليست ذات علاقة مباشرة بالموضوع، كنت قبل ذلك طالبا بالمدرسة الثانوية، وكان ارتباطى بالحركة السياسية التى كانت قائمة فى ذلك الوقت يجعل أجهوة البوليس تصنف اسمى من ضمن الطلبة المشاغبين، الذين يتعرضون للمراقبة والاعتقال ساعات فى أقسام الشرطة، أو أيام فى السجون العامة وكان ذلك يتم دائما فى أعقاب ما كانت تسميه السلطة أحداث شغب، وكنا نحن نعتبره نضالا وطنيا ضد الاحتلال البريطانى وضد من كنا نعتبرهم أعوان الاستعمار هذا مجرد توضيح للتوجهات والمزاج الشخصى الذى كنت أعيشه قبل الحاقى بالكلية الحربية.
وجدت نفسى فجاءة طالبا بالكلية أتعرض مثل باقى زملائى لانضباط شديد انعكس فى وجدانى احساسا بالقهر ونفورا من السلك العسكرى، وبدأت أراجع نفسى فى جدوى الارتباط الأبدى بهذه الحياة العسكرية وما يمكن أن أحققه للوطن فى هذا المجال -فقد كانت البعثة العسكرية البريطانية تملك السيطرة على مقدرات الجيش المصرى، كما كان المندوب السامى البريطانى يملك السيطرة على الحكم فى مصر- وفى خلال مرحلة التوتر والتفكير كنت أكثر أتجاها الى التخلص من هذه الحياة والعودة الى الحياة المدنية واللحاق بالجامعة حيث مجال الحرية قائم ومجال النضال وارد.
فى هذه المرحلة وفى هذه الظروف النفسية ظهرت ومضة الأمل التى أثارت طريقى واستقر أمرى على التمسك بالحياة العسكرية طريقا للنضال من أجل الوطن.
ففى أحد الأيام كنا فى طابور تدريب وكان على رأسه ضابط برتية اليوزباشى لم أكن أعرفه، كان أسمر اللون، صارم القسمات، ممتشق القوام، مهيب الطلعة -القى علينا هذا الضابط محاضرته ثم انتقل الى الحديث عن البعثة العسكرية البريطانية، وعن جيش الاحتلال وعن الواجب الوطنى فى التحرر من النفوذ الأجنبى وعن واجبنا فى تثقيف الجنود وتحريرهم من أسطورة الامبراطورية البريطانية التى لا تقهر- وقال كلاما لا أذكر تفاصيله بعد هذه السنين، ولكن ما علمه لنا كان فى مثل ذلك العصر وفى مثل ذلك المكان.. قد فاق كل التوقعات- وجدت فيه بريق الأمل والنموذج الجديد لضابط الجيش الوطنى الشجاع- وقررت أن أتمسك بانتمائى للجيش وان أسير على درب هذا الضابط الأسطورة..
يوسف منصور صديق.
وفى ليلة 23 يوليو 1952 كانت القوة المكلفة بأخطر العمليات وأهمها -وهى الاستيلاء على رئاسة الجيش- تحت قيادة البكباشى يوسف منصور صديق -وقصة تحركة قبل الموعد المحدد فى الخطة بساعة يعرفها الجميع- ولكن هناك أمرا يلزم توضيحة بحكم الانصاف، فلم يكن تحركه قبل الموعد نتيجة ارتجال أو خلل فى الحساب ولكنه كان نتيجة لتقدير صحيح بناه على مستجدات فى الأحداث، فقد كان قادة الجيش يتوافدون على رئاسة بأوامر الملك لاجهاض تحرك الضباط الأحرار قبل بدايته فتصرف يوسف صديق بحسه الثورى وقام بمبادرة شجاعة مخالفا التوقيت المحدد فى الخطة وتحرك الى رئاسة الجيش واحتلها واعتقل القيادات العليا كلها فى سلة واحدة -قبل ان تخرج لاجهاض الثورة- وقام بتأمين باقى الواحدات الثورية فى تحركها وأنهى القائد العظيم مهمته التاريخية ثم جلس مرهقا على سلم رئاسة الجيش ينزف الدم من رئتيه وابتسامة النصر العظيم على شفتيه- هذا هو البطل المناضل الأسطورى الذى لولاه ولولا مبادرته الشجاعة ليلة 23 يوليو لربما كنا جميعا قد تعلقنا على أعواد المشانق.
فى عام 1957 كنت رئيسا لتحرير جريدة الشعب وكان صاحب أمتيازها الفعلى هو الرئيس جمال عبد الناصر -وفى أح الأيام طلبنى الرئيس وقال ان يوسف صديق يعانى من أزمة مالية وكلفنى ان أتفق معه على كتابة بعض المقالات فى الجريدة مقابل أجر معقول، ثم طلب منى الا أنشر شيئا الا بعد عرضه عليه- أى على الرئيس. وفعلا تم الاتفاق مع يوسف صديق، ونشرنا له بعض انتاجه ثم أخذ النشر يتعثر لأسباب لا دخل لى فيها وكان يحضر أحيانا للمشاجرة معى متصورا أننى المسئول عن تعطيل النشر وكنت حريصا على اخفاء الحقيقة -ولكنه بدأ يتبينها فامتنع عن تقاضى راتبه- الذى كان فى أمس الحاجه اليه- وأخذت أجادله لاقناعه بأن تأخير النشر أمر وارد دائما ولكن ليس له علاقة بحقوقه المادية- فالححت عليه فازداد تعنتا وازدادت به اعجابا، وأخيرا قال كلمته: "يجب ان تعلم ويعلم سواك أن يوسف صديق لن يقبل منحه من أحد".
_____________________
-كاتب هذا المقال -لطفى واكد من الضباط الأحرار، وقد أصبح مديرا لمكتب جمال عبد الناصر- وأخيرا نائب رئيس حزب التجمع
وجدت نفسى فجاءة طالبا بالكلية أتعرض مثل باقى زملائى لانضباط شديد انعكس فى وجدانى احساسا بالقهر ونفورا من السلك العسكرى، وبدأت أراجع نفسى فى جدوى الارتباط الأبدى بهذه الحياة العسكرية وما يمكن أن أحققه للوطن فى هذا المجال -فقد كانت البعثة العسكرية البريطانية تملك السيطرة على مقدرات الجيش المصرى، كما كان المندوب السامى البريطانى يملك السيطرة على الحكم فى مصر- وفى خلال مرحلة التوتر والتفكير كنت أكثر أتجاها الى التخلص من هذه الحياة والعودة الى الحياة المدنية واللحاق بالجامعة حيث مجال الحرية قائم ومجال النضال وارد.
فى هذه المرحلة وفى هذه الظروف النفسية ظهرت ومضة الأمل التى أثارت طريقى واستقر أمرى على التمسك بالحياة العسكرية طريقا للنضال من أجل الوطن.
ففى أحد الأيام كنا فى طابور تدريب وكان على رأسه ضابط برتية اليوزباشى لم أكن أعرفه، كان أسمر اللون، صارم القسمات، ممتشق القوام، مهيب الطلعة -القى علينا هذا الضابط محاضرته ثم انتقل الى الحديث عن البعثة العسكرية البريطانية، وعن جيش الاحتلال وعن الواجب الوطنى فى التحرر من النفوذ الأجنبى وعن واجبنا فى تثقيف الجنود وتحريرهم من أسطورة الامبراطورية البريطانية التى لا تقهر- وقال كلاما لا أذكر تفاصيله بعد هذه السنين، ولكن ما علمه لنا كان فى مثل ذلك العصر وفى مثل ذلك المكان.. قد فاق كل التوقعات- وجدت فيه بريق الأمل والنموذج الجديد لضابط الجيش الوطنى الشجاع- وقررت أن أتمسك بانتمائى للجيش وان أسير على درب هذا الضابط الأسطورة..
يوسف منصور صديق.
وفى ليلة 23 يوليو 1952 كانت القوة المكلفة بأخطر العمليات وأهمها -وهى الاستيلاء على رئاسة الجيش- تحت قيادة البكباشى يوسف منصور صديق -وقصة تحركة قبل الموعد المحدد فى الخطة بساعة يعرفها الجميع- ولكن هناك أمرا يلزم توضيحة بحكم الانصاف، فلم يكن تحركه قبل الموعد نتيجة ارتجال أو خلل فى الحساب ولكنه كان نتيجة لتقدير صحيح بناه على مستجدات فى الأحداث، فقد كان قادة الجيش يتوافدون على رئاسة بأوامر الملك لاجهاض تحرك الضباط الأحرار قبل بدايته فتصرف يوسف صديق بحسه الثورى وقام بمبادرة شجاعة مخالفا التوقيت المحدد فى الخطة وتحرك الى رئاسة الجيش واحتلها واعتقل القيادات العليا كلها فى سلة واحدة -قبل ان تخرج لاجهاض الثورة- وقام بتأمين باقى الواحدات الثورية فى تحركها وأنهى القائد العظيم مهمته التاريخية ثم جلس مرهقا على سلم رئاسة الجيش ينزف الدم من رئتيه وابتسامة النصر العظيم على شفتيه- هذا هو البطل المناضل الأسطورى الذى لولاه ولولا مبادرته الشجاعة ليلة 23 يوليو لربما كنا جميعا قد تعلقنا على أعواد المشانق.
فى عام 1957 كنت رئيسا لتحرير جريدة الشعب وكان صاحب أمتيازها الفعلى هو الرئيس جمال عبد الناصر -وفى أح الأيام طلبنى الرئيس وقال ان يوسف صديق يعانى من أزمة مالية وكلفنى ان أتفق معه على كتابة بعض المقالات فى الجريدة مقابل أجر معقول، ثم طلب منى الا أنشر شيئا الا بعد عرضه عليه- أى على الرئيس. وفعلا تم الاتفاق مع يوسف صديق، ونشرنا له بعض انتاجه ثم أخذ النشر يتعثر لأسباب لا دخل لى فيها وكان يحضر أحيانا للمشاجرة معى متصورا أننى المسئول عن تعطيل النشر وكنت حريصا على اخفاء الحقيقة -ولكنه بدأ يتبينها فامتنع عن تقاضى راتبه- الذى كان فى أمس الحاجه اليه- وأخذت أجادله لاقناعه بأن تأخير النشر أمر وارد دائما ولكن ليس له علاقة بحقوقه المادية- فالححت عليه فازداد تعنتا وازدادت به اعجابا، وأخيرا قال كلمته: "يجب ان تعلم ويعلم سواك أن يوسف صديق لن يقبل منحه من أحد".
_____________________
-كاتب هذا المقال -لطفى واكد من الضباط الأحرار، وقد أصبح مديرا لمكتب جمال عبد الناصر- وأخيرا نائب رئيس حزب التجمع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق