تقديم

يسرنى أن أقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب المهم عن بطل مصرى حر هو القائمقام يوسف صديق، الذى كان له الدور الأول فى نجاح ثورة 23 يوليو، اذ كان هو أول من أطلق شرارتها، وأكثر من حافظوا على مبادئها التى قامت عليها عندما تنكر الآخرون لهذه المبادئ، ولم يتحمل ضميره البقاء فى صفوفها عندما انحرفت عن طريق الدستور والديمقراطية واتجهت اتجاهها الدكتاتورى المعروف ودفع ثمن ماقفه الشريفة غاليا.
كنت أول من ألقى الضوء على دور القائمقام يوسف صديق عندما كنت أنشر دراستى عن أزمة مارس 1954، ولذلك عندما عرض على المناضل الكبير الأستاذ محمود توفيق، وهو زوج ابنة يوسف صديق، نشر أوراقه فى سلسلة تاريخ المصريين رحبت تماما، فقد سبق لى أن رحبت بنشر كتاب "ثورة يوليو والحقيقة الغائبة" لكل من اللواء/ مصطفى عبد المجيد نصير، واللواء/ عبد المجيد كفافى، واللواء/ سعد عبد الحفيظ، والسفير/ كمال منصور، الذى يصحح الكثير من المعلومات عن ثورة يوليو، وقد صدر هذا الكتاب فى هذه السلسلة ونشر تحت رقم 122، ومن الطبيعى أن أرحب بنشر أوراق الرجل الذى كان باعتراف الجميع السبب الرئيسى فى نجاح ثورة يوليو.
وقد كان الكتاب الذى قدمه لى الأستاذ محمود توفيق فى البداية عبارة عن حقيبة بيرة من الأوراق دون أى ترتيب، وقد اخترت منها ما يصلح للكتاب، وقمت بتبويبه، دفع به للمطبعة، وطبعت البرفة الألى منه، ولكن الأستاذ محمود توفيق وابنة البطل يوسف صديق أدخلا تعديلات كثيرة على الروفة الأولى، وقد قبلتها على الفور، وهى التى انتهى اليها الكتاب بصورته الحالية، وتلقيت موافقة الأستاذ محمود توفيق عليه.
وينقسم الكتاب الى ثمانية فصول، الفصل الأول ويتضمن أوراقا تمهيدية، أما الفصل الثانى فيتضمن مذكرات يوسف صديق،  ويتناول الفصل الثالث التساؤلات التى أثيرت عن ليلة الثورة، أما الفصل الرابع فيتحدث عن مواقف يوسف صديق فى مجلس الثورة، ويتناول الفصل الخامس دور يوسف صديق فى أزمة مارس 1954 ووقوفه الى جانب عودة الجيش الى ثكناته وعودة الديمقراطية للبلاد، أما الفصل السادس، فيتناول الكتابات التى نشرت عن يوسف صديق، ويتناول الفصل السابع الدعوى القضائية التى رفعها أولاد يوسف صديق ضد وزارة الدفاع بسبب غياب تمثاله فى المتحلف الحربى، على الرغم من أن دوره فى نجاح الثورة هو الدور الرئيسى! ولما كان يوسف صديق شاعرا ومحاربا، فقد تناول الفصل الثامن مختارات نادرة من شعره السياسى.
وأملى أن أكون قد أضفت بهذا الكتاب وثيقة مهمة من وثائق ثورة يوليو كانت المكتبة العربية فى حاجة اليها.
والله الموفق.
                  رئيس التحرير
               د. عبد العظيم رمضان

1- الفصل الأول: أوراق تمهيدية

أوراق تمهيدية

(أ) يوسف صديق -بقلم ابنته السيدة/ سهير يوسف صديق- 


(ب) يوسف صديق

نبذة عن يوسف صديق

** ولد فى 3 يناير 1910 بقية زاوية المصلوب مركز الواسطى -مدرية بنى سويف- وهى موطن والديه.

** كان والده اليوزباشى منصور يوسف صديق ضابطاً بالجيش المصرى، واشترك فى حرب استرداد السودان، وأمضى مدة خدمته العسكرية كلها فى السودان، وتوفى فى يعان شبابه سنة 1911، وكان يوسف مازال رضيعاً.

** وجده هو المرحوم يوسف صديق الأزهرى وكان بدوره ضابطا بالجيش المصرى بالسودان، وكان حاكما لاقليم كردفان عند قيام الثورة المهدية، وقتل على يد الثوار هو وسائر أفراد أسرته ولم ينج منهم غير ولده منصور وأخ أصغر له ه أحمد اللذين تمكنا من الهرب الى مصر وهما فى سن الصبا. 

** وكان خاله هو الضابط الشاعر الوطنى محمد توفيق على الذى كان ضابطا بالجيش المصرى بالسودان وشارك فى حرب استرداده وأمضى مدة خدمته كلها بالسودان الى أن استقال من الجيش سنة 1912 بسبب كثرة مصادماته مع رؤسائه الانجليز فى الجيش، وقد لعب دوراً مهما فى حياة يوسف صديق وفى توجهاته الوطنية والأدبية، كما كان هو الذى ساعده فى الالتحاق بالكلية الحربية.

** نال يوسف شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من مدرسة بنى سويف الثانوية والتحق بالكلية الحربية سنة 1930 وتخرج سنة 1933 ملازماً ثانياً بالجيش المصرى بالسلوم ثم مرسى مطروح الى أن عين مدرساً بالكلية الحربية حيث تخصص فى مادة التاريخ العسكرى.

** التحلق بكلية أركان حرب وتخرج منها سنة 1946 حيث عمل فى ادارة الجيش قسم السجلات العسكرية.

** كان فى طليعة القوات التى دخلت الى فلسطين فى 15 مايو سنة 1948 وشارك بدور بارز فى حرب فلسطين حيث كانتالكتيبة هى أكثر الوحدات المصرية توغلا فى الأرض الفلسطينية، وتمكنت من الوصول الى بلدة (أسدود) على مقربة من (تل أبيب) استطاعت الاحتفاظ بهذا الموقع حتى نهاية الحرب، وانسحاب الجيش المصرى الى (غزة).

** عرف فى وسط الضباط بمواقفه الوطنية وشجاعته، وكانت له مواقف عروفه فى هذا الشأن، وكثيراً ما عبر عنها فى أشعاره التى كان يلقيها على زملائه الضباط فى المناسبات المختلفة، مما جر عليه سخط السلطات الحاكمة، بقدر ما أكسبه حب وثقة العناصر الوطنية من ضباط الجيش، وتمثل ذلك فى تعمد قيادة الجيش تخطيه فى الترقيات لسنات متعاقبة رغم اعترافها بدوره البطولى فى حرب فلسطين، كما تمثل فى ملاحقته بالتنقلات المتتالية والعمل على تشتيته بصفة مستمرة، بل ثبت بعد ذلك من اعترافات أفراد الحرس الحديدى التابع للملك فاروق أنه كان مستهدفاً للاغتيال فى الأيام السابقة على قيام ثورة يوليو سنة 1952.

** كانت له علاقات مع بعض القوى والأحزاب والتنظيمات السياسية قبل الثورة بحثاً عن مجال للعمل الوطنى والثورى، كان أهمها فى النهاية علاقته مع تنظيم الجيش فى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو)، وذلك على النحو أوضحه فى مذكراته.

** انضم بعد ذلك الى تنظيم الضباط الأحرار حيث رشحه للعضوية الضباط وحيد جوده رمضان الذى كان يعمل معه فى منطقة العريش، وتم انضمامه على أثر لقاء بينه وبين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر جرى بواسطة الضباط وحيد رمضان وذلك فى أكتوبر سنة 1951، كما تكرر لقاؤه بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر أكثر من مرة بعد هذا التاريخ قيام الثورة على النحو الذى أشار اليه فى مذكراته.

** كانت وحدته العسكرية وهى الكتيبة الأولى مدافع ماكينة، تعسكر فى منطقة العريش، ثم صدرت له الأامر بالانتقال الى القاهرة، استعدادا لترحيلها الى السودان، وصدر الأمر ليوسف صديق بأن ينتقل بمقدمة تلك الكتيبة الى القاهرة كقوة عسكرية ادارية واستلام وتجهيز المكان المخصص للكتيبة تمهيداً لانتقالها اليه بعد ذلك، وكان وصول يوسف بمقدمة الكتيبة الى القاهرة فى 13 يوليو سنة 1952.
ولدى وصله الى القاهرة، اتصل به جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر أخطراه بأنه قد تقرر يوم 26 يوليو موعداً لقيام الثورة، ثم عادا وابلغاه بتقديم الموعد الى ليلة 23 سنة 1952 وأبلغاه بأن دوره فى الخطة هو أن يكون قوة احتياطية (صغيرة) الى رئاسة الجيش بعد احتلالها لتأمينها.

** جرت قائع اشتراكية فى أعمال الثورة ليلة 23 يوليو على النحو المفصل فى مذكراته.

** بعد قيام الثورة تقرر ضمه الى مجلس قيادة الثورة الذى تشكل بعد نجاحها تقديرا لدوره الأساسى فى نجاح الثورة، ولم يكن قبل ذلك عضواً فى اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، كما لم يكن يعرف تشكيل هذه اللجنة ولم يعرف من أعضائها غير جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات وحسين الشافعى، ولم يكن يعنيه معرفة أسماء هؤلاء الأعضاء.

** بدأت خلافاته مع مجلس قيادة الثورة مبكرا بعد نجاحها وكانت نقظة الخلاف الجوهرية هى الموقف من قضية الديمقراطية ودفاعا الحازم عن ضرورة انتهاج الطريق الديمقراطى أسلوباً للحكم، ومعارضته الحازمة للاتجاه السائد فىالمجلس للانفراد بالسلطة وفرض حكم عسكرى دكتاتورى على البلاد، كما تعددت اسباب الخلاف فى الموقف من أعدام العاملين (خميس والبقرى) واعتقال الخصوم السياسيين واعتقال ومحاكمة ضباط الجيش المعارضين.

** تطور الخلاف بينه وبين مجلس الثورة على نحو لم يجد منه بدا من التقدم باستقالته من المجلس على أثر صدور القرارات بحل الدستور وحل الأحزاب واعلان فترة الانتقال فى منتصف يناير سنة 1953 أعتراضاً على هذه القرارات وعلى مجمل السياسة التى اتجه اليها مجلس الثورة، وقد أصر على هذه الاستقالة رغم المحاولات التى بذلت لاثنائه عنها.

** تم ابعاده الى أسوان فى يناير سنة 1953 بعد استقالته، ثم الى سويسرا فى مارس 1953 بحجة العلاجثم الى لبنان فى يونية سنة 1953، وعندما طلب العودة الى الوطن ورفض المجلس عودته، عاد سرا ومعه زوجته وأولاده الى مصر وتوجه من المطار الى قريته (زاوية المصلوب) فى أغسطس سنة 1953، وأرسل برقية من هناك الى اللواء محمد نجيب يخطره فيها بعودته ويجدد استقالته من مجلس قيادة الثورة ومن الجيش، وقد تقرر عند ذلك تحديد اقامته فى قريته حيث ضرب حولها نطاق من قوات البوليس الحربى لعدة شهور، ثم سمح له بعد ذلك بالانتقال الى منزله بحلمية الزيتون فى أوائل العام الدراسى، حيث استمر تحديد اقامته تحت حراسة البوليس الحربى فى ذلك المنزل.

** رغم تحديد اقامته شارك فى أحداث مارس سنة 1954، معبراً عن تأييده للمطالب الشعبية للعودة الى طريق الديمقراطية وانهاء الحكم العسكرى، وعلى أثر هزيمة هبة مارس تم اعتقاله بسجن الاجانب أولا ثم نقل الى السجن الحربى، كما أعتقلت زوجته وعدد من أقاربه، وقد ظل فى السجن الحربى حتى مايو سنة 1955، ثم أفرج عنه مع استمرار تحديد اقامته بمنزله حتى سنة 1956.

** رغم كل ذلك فقد تقدم للمشاركة فى حركة المقاومة الشعبية المسلحة ضد العدوان الثلاثى الى أن أنتهى العدوان.

** أستمر بعد ذلك على مواقفه المبدئية الوطنية والديمقاطية والتقدمية، وظل يعبر عن هذه اامواقف بالوسائل المتاحة رغم بعده عن أى موقع أو منصب رسمى فقد كان يمن دائما بأن هناك تلازماً حتمياً بين الأهداف الوطنية والديمقراطية وبين التقدم على مختلف الجبهات الوطنية والقومية، وانه لا يوجد تعارض بين تلك الأهداف بل أنها أهداف متكاملة ومتشابكة.

** توفى الى رحمة الله فى 31 مارس سنة 1975 على أثر نضال طويل مع المرض لازمه لمدة ثلاث سنوات.

** المذكرات المقدمة حالياً للنشر هى المحررة بخط يده والموقعة منه وذلك فى أثناء مرضه الأخير وقبيل وفاته بقليل.
***

ذكريات عن دوره فى الثورة

تعرض عدد كبير من الكتاب والمؤرخين على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية منذ فترة كبيرة للدور التاريخى الذى قام به والدى ليلة 23 يوليو سنة 1952، حتى أصبح هذا اليوم من كل عام مهرجانا كبيرا يكتب فيه عن البطل "يوسف صديق"، كما كتب عن دوره بعد انضمامه الى مجلس قيادة الثورة من أجل قضية الديمقراطية وهى أحد مبادئ الضباط الأحرار السته التى قامت الثورة من أجل تحقيقها، وعن أنه الوحيد الذى استقال من مجلس قيادة الثورة فى وقت مبكر عندما رأى انحراف هذا المجلس وبعده عن الخطة التى كان الثوار قد رسموها فى منشوراتهم قبل الثورة، حيث كانت صدمته الأولى اعدام العاملين "خميس والبقرى" رغم عدم الموافقة الجماعية للمجلس فقد عارض والدى ذلك مع خالد محيى الدين وجمال عبد الناصر، وعندما كان يذكرهم بما كان يكتب فى منشورات الضباط الأحرار قال بعضهم (أنسى المنشورات.. الظروف تغيرت..) وبدأت تتنافر وجهات النظر مع أعضاء القيادة حول أسلوب الحكم وصدور قوانين تنظيم الأحزاب ثم حلها والغاء الدستور واعادة الرقابة على الصحف واعتقال ضباط المدفعية ودخولهم السجن بملابسهم العسكرية، مما أدى الى تقديم استقالته مضحيا بوضعه فى مجلس قيادة الثورة وبوظيفته فى الجيش، وحتى بحريته الشخصية، وقبل راضيا أن يوضع فى السجن الحربى وأن يوضع معه أبناؤه وأقربائه وزوجته مفضلا ذلك على الاشتراك فى الحكم على حساب حرية وكرامة الشعب المصرى، وقد عبر عن ذلك فى قصيدته (استقبال الصديق) التى كتبها فى السجن الحربى بتاريخ 1955/1/15 عندما أتى الى الحياة حفيدة (يوسف صديق) ابن كاتبه هذه السطور فى 4 يناير سنه 1955 (تاريخ ميلاد والدى 3 يناير 1910) تعبر بعض أبيات هذه القصيدة عن هذا المعنى:
أن الرسالة فى أسمائنا لمعت
فحملتنا ثواب الهدى بالنور
ونحن نعلم أن السجن منزلنا
حتى تدك حصون الافك والزور
ونحن نعلم أن الموت موردنا
نلقاه فى الله فى بشر وتكبير

هذه المقدمة كان لابد منها لكى أدخل الى موضوع الحديث الذى أردت أن أتكلم فيه، وهو الثمن الذى دفعه والدى فى سبيل هذا الموقف من قضية الديمقراطية، وقد دفع فى سبيله أغلى ثمن، وليس وحده الذى دفع هذا الثمن، فقد دفعه جميع المناضلين والوطنيين فى هذا الوقت الذى مرت به مصر بأحداث جسيمة، والتى كانت مفترق طرق فى حياة الشعب، والتى حددت مصير الثورة ومصير مصر كلها لسنوات طويلة بعد ذلك بما جرى فى تلك الأحداث وسأحاول أن أتذكر تفاصيل المواقف التى حدثت لوالدى، وكنت شاهدة عليها ومصاحبة له فيها وهى كلها مواقف عصيبة لم يكتب عنها من قبل، فقد تعرض والدى لكثير من المحن ولاضطهاد والظلم لسنين طويلة.

مدينة العريش واجتماعات الضباط الأحرار

فى صيف سنة 1952 وقبل قياك الثورة بشهر أخذنى والدى مع اخوتى الى العريش لنقضى العطلة المدرسية، وكان يعيش فى منزل صغير بجوار محطة السكة الحديد وقريب من الشاطئ، وكنا فى أواخر شهر رمضان وجاء عيد الفطر ونحن فى العريش وكان والدى حريصا أن يأخذنا لزيارة "غزة" و "رفح" وأن نستمتع بشاطئ العريش الجميل بنخيله ورماله الصفراء النظيفة.
وفى أثناء هذه العطلة كان يتردد على منزلنا عدد كبير من صغار الضباط منهم عبد المجيد شديد ومحمد السقا ووحيد رمضان وعبد الخالق صبحى ومدبولى عبد العزيز (عرفت فيما بعد أنهم كانوا من الضباط الأحرار) فكانوا أحيانا يفطرون معنا أو يتسحرون وكان هذا شئ طبيعى بالنسبة لوالدى، فهو كان محبوباً جدا من ضباطه وجنوده أينما ذهب أو عمل، فلم أشك فى أن هناك شئ غير عادى يحدث بينهم، فقد كان والدى يقوم بعملية تمويه بأن ينظم كل ليلة مجموعة (فريق) يقوم بمبارة فى لعب (الكانستا) وهى لعبة كوتشينة تستغرق وقتا طويلا ويتكون كل فريق منها من 4 أفراد وتحت ستار هذه المباريات كان يتم اجتماع الضباط الأحرار بوالدى.
وفى يوم 13 يوليو سنة 1952 تحرك أبى الى القاهرة بمقدمة الكتيبة وركبت أسرته معه فى القطار المتجه من العريش الى القاهرة وأذكر ونحن فى القطار عندما مر ليعبر كوبرى الفردان الذى كان يربط شرق القنطرة بغربها كنت واخواتى محمد ومحمود وحسين ونعمت ننظر من الشبابيك ونرى الجنود الانجليز بوجوههم الحمراء وشورتاتهم وصدورهم العارية يجلسون على جافة قناة السويس ويستحمون فيها فكان اخوتى، وهم صغار، يهتفون بالانجليزية: "يو آر دوج".
وقبل مغادرة العريش بأيام ذات صباح كنت أتجول بالحوش الأمامى للمنزل فوجدت ورقة على الأرض يبدو أنها سقطت من أحدهم ولم يلحظها فأخذت الورقة، وقرأتها فأذا بها أحد (منشورات الضباط الأحرار) بها كلام خطير عن الملك وعن الجيش وعن ضرورة الاصلاح والتغيير من أجل الشعب، فأخذت المنشور وجريت الى والدى وأخبرته بما حدث فانزعج جدا وأخذه منى وطلب بحزم أن أنساه ولا أذكره لأى انسان، فعرفت أن هناك شئ خطير يقوم به هؤلاء الضباط مع والدى.
وبعد عودتنا الى القاهرة من العريش بعدة أيام "كان والدى متعودا أن ينام بعد الغذاء وكانت تعليماته مشددة ألا يزعجه أحد أثناء النوم، وكان لا يجرؤ أى فرد من الأسرة أن يقترب من غرفته" فى هذا اليوم دق جرب باب منزلنا بحلمية الزيتون، وفتحت لأجد رجلا فارع القامة أسمر اللون يرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض ويقف على سلم الفيلا ويسأل عن والدى (كان هذا الرجل هو جمال عبد الناصر) فترددت أن أذهب لأوقظ والدى لأننى أعرف رد فعله العنيف ولكنى تسللت فى حذر وهدؤ شديد ودخلت الغرفة وكان يبدو أن والدى يشعر بى وقلت وأنا واقفه على باب الغرفة، بعيدا عن سريره (واحد اسمه جمال عاوزك فى الخارج) وبدل أن ينهرنى والدى وجدته يقفز من السرير بسرعة وارتدى ملابسه وخرج مهرولا، حتى اننى عجبت كيف أنه لم يعاقبنى على ايقاظه، وفى يوم 20 يوليو زاره فى منزلنا بحلمية الزيتون جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر حيث وجدوه غارقا فى النزيف، حيث أخذ يرجع من فمه دماء كثيرة وكنا نضع له الأوعيه لكى يرجع فيها الدماء، حيث أبلغوه أنه تقرر القيام بالعمل فى ليلة 23/22 يوليو بصفة نهائية، وعلمت بعد ذلك من والدى أن الصديقان عندما وجداه على هذا الحال رأيا الغاء دوره كلية واعفائه من العمل فى هذه الليلة التى أنتظرها طويلا، ولكنه أقنعهما بأنه يمكنه القيام بالدور المرسوم له بدون أى تعرض للخطر، حيث أن هذا الدور المرسوم كان عبارة عن أنه يحضر بقوته الصغيرة المكونه من 60 جنديا ولا يزيد تسليحها عن البندقية وأن يصحب معه 40 لورى ويحضر هذه القوة الصغيرة الى رئاسة الجيش (بعد احتلالها) واذا استدعت الحالة فان المستشفى العسكرى العام بكوبرى القبة سيكون على بعد خطوات من القيادة العامة.
وفى ليلة 23 يوليو حضر أبى الى منزلنا فى حلمية الزيتون وعلمت منه أنه فى طريقه الينا كان معه الأستاذ محمود توفيق ابن خاله (الذى تزوجنى بعد ذلك) وأخذه الى الدكتور عبد العزيز الشال بشبرا حيث أعطاه حقنه لوقف النزيف الذى كان يخشى أن يعاوده ليلا لأنه سيقضى الليل فى المعسكر وأنه جاء ليسلم علينا ويعطى والدتى بعض النقود ويسألها أن كانت تحتاج لشئ وكان والدى دائما يتفاءل بها قبل قيامه بأى شئ، ولاحظت والدتى أنه كان فى حالة انفعال شديد وفى عينيه بريق غريب وشعره مهوش والبوشيرت الرسمى مفتوح الصدر فقالت له "مالك يا يوسف عامل كده" ماتكونش رايح تفتح (عكا) وكان قد نزل من سلم التراس فاستدار رجاعا اليها وسألها باستغراب (لأنها لا تعرف شيئا عن موضوع الأنقلاب) ماذا قلت؟ فأعادت ما قالته فرد عليها قائلا نعم سأفتحها وانصرف، وفى صباح اليوم التالى أرسلت حرم محمد نجيب تطلب والدتى للزيارة وكانت صديقتها وجارتها، فلما ذهبت والدتى اليها سألتها عن والدى فقالت لها أنه فى المعسكر، فأخبرتها بأمر الانقلاب العسكرى والبيان الذى أذيع فى الراديو ولم تكن والدتى تعرف عنه شئ فعادت مسرعة الى المنزل وأخذنا فى الاستماع الى البيان والى أخبار الانقلاب.