الأميرالاى عبد الواحد سبل

كان الأميرالاى (عبد الواحد سبل) يتمتع بصفات كثيرة تجعله محبوباً بين جميع ضباط الجيش وقد أهلته هذه الصفات الى أن يتقلد فى الجيش مناصب مهمة لا يعين فيها الا الأكفاء، فقد كان (أركان حرب قسم القاهرة)، ثم كانت آخر وظيفة يشغلها هى (مدير العلميات الحربية) وكانت هذه الوظيفة تعنى أنه كان أساتذه الجيش فهو يشرف على جميع المدارس والمعاهد العسكرية، فلم يكن هناك من يشك فى أحقيته فى الترقى الى رتبة (اللواء) فلما جاء دوره للترقى الى هذه الرتبة كان الثمن المطلوب منه غالباً.
كان الجيش فى حاجه الى عربات، وكان الفريق (ابراهيم عطالله باشا) قد أتفق مع شركة معينة على أن يأخذ منها العربات المطلوب لقاء مبلغ علاوة على عربة خاصة تقدم له كهدية، فعين الاميرالاى (عبد الواحد سبل) رئيساً للجنة التى تشترى العربات وكان الاميرالاى (سبل) رجلا صالحاً مؤمنا بالله فحين عرضت الشركات عرباتها للاختيار وقع اختياره على عربات من شركة غير التى اتفق معها (الباشا الكبير) لأن مواصفات عربات الشركة المعنية لم تكن تصلح لأغراض الخدمة العسكرية، فلما أنهت اللجنة عملها وأرسلت قرارها الى (الباشا الكبير) أعاد الاوراق الى رئيس اللجنة (لاعادة النظر)، وأفهم (رئيس اللجنة) بوسيلة ما بأن عليه أن يختار عربات الشركة المعنية أن كان يرغب فى الترقى الى رتبة اللواء.
ووجد الاميرالاى (عبد الواحد سبل) نفسه مخيراً بين أمرين أما أن يقف بجانب الشيطان ويحصل على رتبة اللواء وأما أن يقف بجانب الله ويخسر الرتبة وأختار الرجل جانب الله، وفقد رتبة اللواء ولقب (باشا).
وكان الجيش كله يتتبع أخبار هذه القضية، فلما صدرت النشرة العسكرية التى أحيل فيها الاميرالاى (عبد الواحد سبل) الى الاستيداع، رأى ضباط الجيش وكان على رأسهم فى هذه الحركة (محمد رشاد مهنا) الذى كان معروفاً بين ضباط الجيش بسمعته الطيبة ويتمتع بحبهم وأحترامهم أن يظهروا شعورهم نحو هذا القرار.
كنت أجلس فى مكتبى فى ادارة (السجلات العسكرية) وهى احدى فروع ادارة الجيش ولم أكن قد علمت بخير صدور النشرة، وفوجئت برشاد يزورنى فى مكتبى وكانت تجمعنى به صلة زمالة فى المدرسة الحربية وكنت أكن له كثيراً من الحب والاحترام، وهو الذى قدمنى ذات يوم الى الضباط (لبيب) الذى كان مسئولا عن تجنيد ضباط الجيش للاخوان المسلمين.
وقال (رشاد): ألا تحضر معنا الحفل الذى سنتقيمه لتكريم الأميرالاى (عبد الواحد سبل) بمناسبة احالته الى الاستيداع؟... فقلت: وهل أحيل فعلا الى الاستيداع؟... قال: ألم تقرأ النشرة؟.. قلت: كلا مع الأسف، ولكنى أحضر بكل تأكيد.. قال ومطلوب منك أن تلقى كلمة فى الحفل، قلت لا بأس ومتى سيقام الحفل وأين؟.. قال اليوم الساعة الرابعة بعد الظهر، فى نادى ضباط الجيش، وكنا فى ذلك الوقت نقترب من الساعة الواحدة بعد الظهر، فرجوته أن يجعلنى آخر المتكلمين لأستطيع تحضير كلمتى فوافق وانصرف.
وجلست فى مكتبى وخلوت الى نفسى وتحركت فى أعماقى حاسة شاعرية تراودنى فى مثل تلك الأحداث وأخذت أسطر كلمتى أو قصيدتى:
ولما بقى على الموعد نصف ساعة تحركت الى النادى وأنا ما أزال أكمل القصيدة التى لم تكتمل الا وأنا أشرف على القائها وقد اتيحت لى فرصة من الوقت لأن عدد الذين خطبوا فى هذا الحفل سبعة عشر خطيباً.
وشاءت المصادفة أن يكون أول من خطب فى هذا الحفل الشاعر (محمود محمد الشاذلى) وكان من ادارة الجيش كذلك، وكنت أنا آخر من خطب فى الحفل من ادارة الجيش نفسها، وقد حضر هذا الحفل عدد كبير من ضباط الجيش على، غير المألوف فى مثل هذه الحفلات.
وكتبت المخابرات تقريراً عن هذا الحفل قالت فيه أنه كان احتجاجاً صارخاً على احالة (الاميرالاى عبد الواحد سبل) الى الاستيداع وفيه هجوم على قيادة الجيش التى أصدرت القرار بذلك وأنه بكل أسف قد بدأه واختتمه ضابطان من ادارة الجيش، وادارة الجيش هى (القيادة العليا للجيش) التى يرأسها مباشرة (الباشا الكبير).
وأننى أميل الى اعتبار هذا الحادث أول خطوة فى الثورة، فحينما تصدر قيادة الجيش قراراً، يحتج عليه ضباط الجيش وينددون به فى حفل علنى فهذه ثورة.
وقد أشاد جميع الخطباء بالضابط المحال الى الاستيداع وبينو أنه كان أهلا للترقية وأن القرار لم يكن منصفاً وأرى أنه من المناسب أن أذكر بعض أبيات هذه القصيدة التى عبرت نفس التعبير فقد جاء فى مطلعها:
ما للوجوم علا الوجوه وشاعا
وتطيرت تلك النفوس شعاعا
حتى كأن القوم أول مــــــــرة
شهدوا جهاد المخلصين مضاعة

وفيها وجهت الكلام الى المحتفى به:
يا صاحب القلب الكبير: تحية
فلقد بدأت، ولا أقول وداعاً
حررت من قيد الوظيفة فانطلق
حرا، واطلق للكفاح شراعا
عار الوظيفة أن نضام بها اذا
كنا الرجال، ولم نكن اتباعا
ونفوس اهل الحق تأبى، حرة
وكريمة ان تشترى وتباعا

وقد بدأت ادارة الجيش اجراءات محاكمتنا ولكن لم تجد وسيلة لذلك، ومن جهتى أنا فقد نقلت من ادارة الجيش الى الاسماعيلية، وبعد وصولى اليها بأيام قامت قيادة الجيش باعتقال باقى الخطباء ولم تعتقلنى لأن الكوليرا كانت قد بدأت تظهر فى منطقة القنال فعزلت المنطقة كلها فلم تكن القطارات تسير منها ولا اليها وانقطعت عن باقى القطر تماماً.
وقد قضى زملائى من الضباط نحو شهرين فى الاعتقال ثم تم الافراج عنهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق