كان دخول المدرسة الحربية بالشهادة الإبتدائية ، ولسبب ما رأت الحكومة رفع مستوى ضباط الجيش فجعلت الدخول (بالبكالوريا) ، وهي (الثانوية العامة) الحالية ولما تخرجت أول دفعة من حملة البكالوريا أرسل عدد منهم إلى انجلترا لإستكمال دراستهم العسكرية في جامعاتها العسكرية وعادوا يحملون الشهادات العالية.
وبطبيعىة الحال كانوا يقومون بالتدريس في المدرسة الحربية لتخليص الجيش من العجائب التي كان يحويها .
فلم يكن الضباط القدامى من حملة الإبتدائية أو (الكفاءة) ، وهي شهادة تعادل إعدادية هذه الأيام فحسب ، بل كان بينهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون وهؤلاء من (تلاميذ السردار) فقد كان للسردار وهو الحاكم الإنجليزي للجيش حق إدخال عدد من التلاميذ مع كل دفعة ، وكان يختارهم من أبناء خدمة من الطباخين والسفرجية وغيرهم.
ومما يروى عن أحدهم ، أن الضابط المكلف بصرف المرتبات ذهب إلى قائده ، وكان هذا القائد أمياً ، وأخبره بأنه قد وجد عجزاً في الماهيات قدره (ثلاثة جنيهات) ، فأمره القائد بإحضار كشف المرتبات ومراجعته معه ، وأخذ الضابط يجمع العمود الأول (عمود الآحاد) الذي انتهى (ب38) مثلاً فقال الضابط وهو يراجع بصوت عال بسمعه القائد 8 ومعانا 3 كما نقول في الجمع فقال القائد إذن أين العجز ؟! معاك 3 يبقى الكشف تمام ولا عجز هناك ...
وللمحافظة على شعور هؤلاء الأميين ، كان على جميع ضباط الجيش أن يحملوا (أختاماً) يوقعون بها على الأوامر اليومية وغيرها مما يتطلب التوقيع ، وكان لي ختم لازمني إلى أن ألغيت الأختام ، ولقد جعلت هذه النهضه في الجيش هوة سحيقة بين قدامى الضباط الذين يتولون القيادة وبين الضباط الأحدث من حملة البكالوريا والمتخرجين على أيدي ضباط تعلموا في (اوروبا) .
وبطبيعة الحال كان الضابط كلما علا في رتبته ازداد في جهله ، وكنا نستفيد أحياناً من جهلهم ، فكان الضباط من رتبة (الصاغ ، الرائد) فما فوق يركبون خيولاً ، في كتائب المشاه ، أما الرتب الأصغر فكانت تحضر الطوابير والمناورات مشياً على الأقدام.
وكانت المناورة السنوية للجيش تسبق بفترة تدريب على ذلك من فنون الحرب ، وكانت قيادة الجيش تختار أرضاً مناسبة للعمليات العسكرية المختلفة من هجوم ودفاع وانسحاب وغيرها لكل عملية في الصحراء حول (الماظة) وفي أماكن مماثلة خارج القاهرة وكانت الوحدات تتبادل هذه الأراضي حسب العمليات التي تقوم بها ، فالوحدة التي تتدرب على الهجوم تذهب ألى الأرض المختارة لذلك وهكذا.
وكان الأمر يقتضي أن تقسم الأرض إلى أجزاء يحمل كل منها رقماً للمنطقة (1) مثلاً والمنطقة (ب) وهكذا ، وكانت هذه الأجزاء تحدد على الخرائط والضباط القدامى لا يعرفون قراءة الخرائط ، فكان قائد (البلك) وهو (السرية) بلغة العصر برتبة (بكباشى) (مقدم) يعاملني بغلظة وشراسة ربما تصل أحياناً إلى حد الوقاحة أمام الجنود ، كأنما كانت قيادته ورئاسته لي لا تتحقق إلا بذلك.
وذات يوم فوجئت بأن حضرة (البكباشى) يدعوني إلى مكتبه ، فلما دخلت عليه أشار لي بالجلوس على غير عادته ، ثم قدّم لي سيجارة على غير عادته ، أمر لي (بفنجان قهوة) ، ولاحظت أنه كان في أثناء الحديث يضيف الى إسمي لقب (أفندي) ، كل ذلك على غير عادته ، فكانت لهجته السابقة لا تزيد عن : أنت يا ضابط يا قصير النظر .. الخ ، ثم أرسل حضرة (البكباشى) مراسلته الواقف بباب مكتبه لينادي (السايس) ، وهو الجندي المخصص لخدمة حصانه .
وبينما أنا استمتع بشرب فنجان القهوة وتدخين السيجارة ، حضر السايس ، فإذا بحضرة البكباشى يقول له أمامي : في أي وقت حضرة الضابط يطلب حصاني أعده له .. ولم يطل بي العجب بحثاً عن السبب ، فقد أخرج حضرة (البكباشى) من درج مكتبه أوراقاً قدمها لي وهو يقول : يا يوسف أفندي ، هذه الأوراق وصلتني اليوم وهي تحوي تعليمات التدريب على المناورة ، في الوقت الذي يناسبك إركب حصاني و إذهب لإستكشاف المناطق المحددة للتدريب ، وقد اصدرت أوامري (للسايس) أمامك والحصان تحت أمرك في الوقت الذي تطلبه.
كانت قيادة الجيش ما تزال في يد (الإنجليز) وكان الضباط الإنجليز يمرون صباح كل يوم ليتأكدوامن أن كل وحدة تمارس تمرينها على الأرض المخصصة لها .
وجدت أكثر من مرة أن صادفوا وحدات تسير جنوباً بينما الأرض المخصصة لهم في الشمال ، وكان معنى ذلك أن القائد لا يرقى إلى الرتبة الأعلى حين يأتي دوره ، والضابط الصغير في مثل تلك الأحوال لا يلام ولا يؤاخذ ولا يوجه إليه أي شئ فهو تابع لقائده أينما يسير.
وللأسف لم تكن مدة التدرب والمناورة تزيد عن شهرين أو ثلاثة في السنة كنا نحصل فيها نحن الضباط الأصاغر على شئ من رد الإعتبار . وبمجرد إنتهاء المناورة تعود بنا الأوضاع سيرتها الأولى .
ورغم خيبة أملي في الجندية وارتباطها بالكرامة والشرف والشهامة وغيرها من الصفات المطلوبة في الجندي ، كنت أشعر بأن وجود الجيش في أحسن أوضاعه الممكنة ربما يفيد قضيتنا في المستقبل فكنت أبذل قصارى جهدي في التدريب ، وفي تحقيق العدالة بين الجند في الترقيات .
وقد أمرني قائد السرية (حضرة البكباشى ) مرة أن أرقي جندياً من بلده إلى رتبة (وكيل انباشى) وهي وإن كانت لا تكسبه أي مكسب مادي إلا أن فيها إرتقاء معنوياً حيث تنقله من صفوف العساكر إلى صفوف (ضباط الصف) وتجعله مميزاً عن العسكري العادي ، وكان هذا الجند خاملاً لا يصلح لشئ ، فلما أصررت على عدم ترقيته نقله إلى مكان آخر حيث رقى ، وخسرت حب (البكباشى) إلا أنني إحتفظت بحب الجنود وبإحترامهم .
وقد وقعت بيني وبين بعض القيادات العليا صدمات عنيفة كنت أنتصر فيها لأن القانون كان حياً يحمي من يحتمي به ، وكنت دائماً في صف القانون ، وكان القانون يحميني .. وأقصى ما كان ينالني هو نقلي إلى مكان آخر حفاظاً على هيبة (الكبير) .
وبطبيعىة الحال كانوا يقومون بالتدريس في المدرسة الحربية لتخليص الجيش من العجائب التي كان يحويها .
فلم يكن الضباط القدامى من حملة الإبتدائية أو (الكفاءة) ، وهي شهادة تعادل إعدادية هذه الأيام فحسب ، بل كان بينهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون وهؤلاء من (تلاميذ السردار) فقد كان للسردار وهو الحاكم الإنجليزي للجيش حق إدخال عدد من التلاميذ مع كل دفعة ، وكان يختارهم من أبناء خدمة من الطباخين والسفرجية وغيرهم.
ومما يروى عن أحدهم ، أن الضابط المكلف بصرف المرتبات ذهب إلى قائده ، وكان هذا القائد أمياً ، وأخبره بأنه قد وجد عجزاً في الماهيات قدره (ثلاثة جنيهات) ، فأمره القائد بإحضار كشف المرتبات ومراجعته معه ، وأخذ الضابط يجمع العمود الأول (عمود الآحاد) الذي انتهى (ب38) مثلاً فقال الضابط وهو يراجع بصوت عال بسمعه القائد 8 ومعانا 3 كما نقول في الجمع فقال القائد إذن أين العجز ؟! معاك 3 يبقى الكشف تمام ولا عجز هناك ...
وللمحافظة على شعور هؤلاء الأميين ، كان على جميع ضباط الجيش أن يحملوا (أختاماً) يوقعون بها على الأوامر اليومية وغيرها مما يتطلب التوقيع ، وكان لي ختم لازمني إلى أن ألغيت الأختام ، ولقد جعلت هذه النهضه في الجيش هوة سحيقة بين قدامى الضباط الذين يتولون القيادة وبين الضباط الأحدث من حملة البكالوريا والمتخرجين على أيدي ضباط تعلموا في (اوروبا) .
وبطبيعة الحال كان الضابط كلما علا في رتبته ازداد في جهله ، وكنا نستفيد أحياناً من جهلهم ، فكان الضباط من رتبة (الصاغ ، الرائد) فما فوق يركبون خيولاً ، في كتائب المشاه ، أما الرتب الأصغر فكانت تحضر الطوابير والمناورات مشياً على الأقدام.
وكانت المناورة السنوية للجيش تسبق بفترة تدريب على ذلك من فنون الحرب ، وكانت قيادة الجيش تختار أرضاً مناسبة للعمليات العسكرية المختلفة من هجوم ودفاع وانسحاب وغيرها لكل عملية في الصحراء حول (الماظة) وفي أماكن مماثلة خارج القاهرة وكانت الوحدات تتبادل هذه الأراضي حسب العمليات التي تقوم بها ، فالوحدة التي تتدرب على الهجوم تذهب ألى الأرض المختارة لذلك وهكذا.
وكان الأمر يقتضي أن تقسم الأرض إلى أجزاء يحمل كل منها رقماً للمنطقة (1) مثلاً والمنطقة (ب) وهكذا ، وكانت هذه الأجزاء تحدد على الخرائط والضباط القدامى لا يعرفون قراءة الخرائط ، فكان قائد (البلك) وهو (السرية) بلغة العصر برتبة (بكباشى) (مقدم) يعاملني بغلظة وشراسة ربما تصل أحياناً إلى حد الوقاحة أمام الجنود ، كأنما كانت قيادته ورئاسته لي لا تتحقق إلا بذلك.
وذات يوم فوجئت بأن حضرة (البكباشى) يدعوني إلى مكتبه ، فلما دخلت عليه أشار لي بالجلوس على غير عادته ، ثم قدّم لي سيجارة على غير عادته ، أمر لي (بفنجان قهوة) ، ولاحظت أنه كان في أثناء الحديث يضيف الى إسمي لقب (أفندي) ، كل ذلك على غير عادته ، فكانت لهجته السابقة لا تزيد عن : أنت يا ضابط يا قصير النظر .. الخ ، ثم أرسل حضرة (البكباشى) مراسلته الواقف بباب مكتبه لينادي (السايس) ، وهو الجندي المخصص لخدمة حصانه .
وبينما أنا استمتع بشرب فنجان القهوة وتدخين السيجارة ، حضر السايس ، فإذا بحضرة البكباشى يقول له أمامي : في أي وقت حضرة الضابط يطلب حصاني أعده له .. ولم يطل بي العجب بحثاً عن السبب ، فقد أخرج حضرة (البكباشى) من درج مكتبه أوراقاً قدمها لي وهو يقول : يا يوسف أفندي ، هذه الأوراق وصلتني اليوم وهي تحوي تعليمات التدريب على المناورة ، في الوقت الذي يناسبك إركب حصاني و إذهب لإستكشاف المناطق المحددة للتدريب ، وقد اصدرت أوامري (للسايس) أمامك والحصان تحت أمرك في الوقت الذي تطلبه.
كانت قيادة الجيش ما تزال في يد (الإنجليز) وكان الضباط الإنجليز يمرون صباح كل يوم ليتأكدوامن أن كل وحدة تمارس تمرينها على الأرض المخصصة لها .
وجدت أكثر من مرة أن صادفوا وحدات تسير جنوباً بينما الأرض المخصصة لهم في الشمال ، وكان معنى ذلك أن القائد لا يرقى إلى الرتبة الأعلى حين يأتي دوره ، والضابط الصغير في مثل تلك الأحوال لا يلام ولا يؤاخذ ولا يوجه إليه أي شئ فهو تابع لقائده أينما يسير.
وللأسف لم تكن مدة التدرب والمناورة تزيد عن شهرين أو ثلاثة في السنة كنا نحصل فيها نحن الضباط الأصاغر على شئ من رد الإعتبار . وبمجرد إنتهاء المناورة تعود بنا الأوضاع سيرتها الأولى .
ورغم خيبة أملي في الجندية وارتباطها بالكرامة والشرف والشهامة وغيرها من الصفات المطلوبة في الجندي ، كنت أشعر بأن وجود الجيش في أحسن أوضاعه الممكنة ربما يفيد قضيتنا في المستقبل فكنت أبذل قصارى جهدي في التدريب ، وفي تحقيق العدالة بين الجند في الترقيات .
وقد أمرني قائد السرية (حضرة البكباشى ) مرة أن أرقي جندياً من بلده إلى رتبة (وكيل انباشى) وهي وإن كانت لا تكسبه أي مكسب مادي إلا أن فيها إرتقاء معنوياً حيث تنقله من صفوف العساكر إلى صفوف (ضباط الصف) وتجعله مميزاً عن العسكري العادي ، وكان هذا الجند خاملاً لا يصلح لشئ ، فلما أصررت على عدم ترقيته نقله إلى مكان آخر حيث رقى ، وخسرت حب (البكباشى) إلا أنني إحتفظت بحب الجنود وبإحترامهم .
وقد وقعت بيني وبين بعض القيادات العليا صدمات عنيفة كنت أنتصر فيها لأن القانون كان حياً يحمي من يحتمي به ، وكنت دائماً في صف القانون ، وكان القانون يحميني .. وأقصى ما كان ينالني هو نقلي إلى مكان آخر حفاظاً على هيبة (الكبير) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق