الى القاهرة

تحركت الكتيبة 13 الى القاهرة استعدادا لترحيلها الى السودان، وكان لا بد أن تقتضى وقتا فى القاهرة لاعدادها لهذا الواجب وكانت أى كتيبة تكلف بهذا الواجب لا بد من اعدادها أعداداً يجعلها رمزاً طيباً للقوات المصرية من جميع النواحى وبعد أيام قلائل بدأ تحرك كتيبتى (الأولى مدافع ماكينة) الى القاهرة وأى وحدة عسكرية تتحرك من مكان الى مكان آخر لا تتحرك كلها مرة واحدة بل تسبقها (مقدمة) منها لاستلام مكان الاقامة الجديد واعداده للاعاشة حتى اذا ما وصلت (القوة الأساسية) تمارس حياتها فى مكانها الجديد فى يسر، وكانت طبيعة هذه المقدمة تتناسب مع هذا الواجب مما يمكن معه أن نطلق عليها اسم (قوة عسكرية ادارية)، تسليحها خفيف ومعظم جنودها من الحرفيين كالطباخين والنجارين والموسيقى وغيرها من الأعمال الفنية اللزمة لحياة الجيش وكان القانون يجعل هذه القوة تحت قيادة قائد ثانى الكتيبة وهى الوظيفة التى كنت أشغلها.
تحركت بمقدمة الكتيبة فى يوم 13 يوليو سنة 1952م الى القاهرة وكانت القوة الأساسية قد تحدد لتحركها يوم 26 يوليو -والقوة الأساسية لكتيبة مدافع الماكينة قوة رهيبة تحتوى على 48 مدفع ماكينة متوسط، وهو مدفع يعطى قوة نيران بمعدل 600 طلقة فى الدقيقة.
وكان الملازم أول (أحمد مدبولى عبد العزيز) المسئول عن حملة الكتيبة قد أعد عربات وحمالات الكتيبة أحسن أعداد حيث كان المفروض أن الكتيبة 13 ستسافر الى السودان فالاعتماد سيكون على كتيبتنا اذا دعت الظروف الى العمل القريب.
وهكذا تجمعت الكتيبتان وقد أعدتا أحسن أعداد فى القاهرة قبل يوم 23 يوليو، وكان المفروض فى حساب الأحرار أن يضربوا ضربتهم فى أكتوبر أو نوفمبر سنة 1952م.
غير أن العشرة أيام التى قضيتها فى القاهرة مع مقدمة (ك أ م. م) قد جرت فيها الأحداث بصورة جعلت اى تأخير يعرض تنظيم الأحرار للخطر المحقق.. فقد رشحت الاشاعات لوزارة الحربية أخطر ضابط على الأحرار وهو (حسين سرى عامر) الذى كان من أخلص رجال الجيش للملك، وهذا الضابط هو الذى كان الملك قد فرضه على مجلس ادارة (نادى الضباط) رغم عدم حصوله فى انتخابات النادى على الأصوات التى تؤهله لذلك، ورفض (اللواء نجيب) الذى فاز بالأصوات اللازمة للرئاسة والذين ينكرون دور اللواء (محمد نجيب) فى حركة الضباط الأحرار يتجنون عليه، فقد قال (محمد نجيب) لا، للملك.. وتنظيم الأحرار لا يزال سرياً، وصحيح أنه كان يعلم أنه مؤيد منهم، ولكن (لا) التى قالها اللواء (نجيب) فى هذا الوقت لم تكن الا تعبيرا عن شجاعته وثقته فى نفسه أولا وفى الضباط الأحرار ثانيا... وأننى انما أضرب مثلا لأرد على الذين يزعمون أن اللواء (نجيب) لم يكن ايجابيا، وكان (حسين سرى عامر) المرشح للوزارة معروفا بعدائه الشديد لحركة الضباط الأحرار وأنه كان ينصح بأخذهم بالحزم الفورى، فى حين كان غيره من قواد الملك يقللون من خطرهم، وذلك كان يعنى أن توليه وزارة الحربية معناه القضاء الفورى على الأحرار، وكان هذا الضابط قد تعرض فعلا لنيران الضباط الأحرار فى محاولة فاشلة لاغتياله أمام منزله فى وقت سابق..
نشط الضباط الأحرار واعادوا حساباتهم وقرروا توجيه ضربتهم بأسرع ما يمكن وقبل سفر الكتيبة 13 الى السودان، الذى كان قد بقى عليه أيام، وفى الأسبوع الأخير كان (جمال) لا يهدأ فكان يمر على يومياً فى منزلى وكان (عبد الحكيم عامر) يرافقه بصفة دائمة، وكان (عبد الحكيم) فى أجازة انتهت مدتها وكان عليه أن يعود الى مقر عمله فى (رفح) ولكن الأحداث أرغمته على البقاء رغم انتهاء أجازته مع ما فى ذلك من خطورة على أى ضابط.
وفى هذا الأسبوع الأخير، نظم (جمال) لأول مرة اجتماعاً للتعارف بين الأحرار، وتم هذا الاجتماع فى منزل السيد (حسين الشافعى بثكنات العباسية) وتم الاجتماع تحت جنح الظلام، وفى هذا الاجتماع لم أر من الوجوه الجديدة بين الأحرار سوى (حسين الشافعى) الذى تم الاجتماع فى بيته (وثروت عكاشة).
وبينما كنت أنا أتوقع أن يكون العمل سهلا ما دام الجيش هو الذى سيقوم به، لدرجة أننى سبق لى التفكير فى القيام وحدى بالعمل من (منقباد) كما سبق وبينت ولم يوفقنى غير سوء حالة العربات التى كانت تحت يدى فاليوم وأنا أرى عددا لا بأس به يشترك معى فان الأمر قد بات ميسورا أشد اليسر بينما كنت أنا على درجة كبيرة من الاطمئنان تزداد كلما ازداد عدد الضباط الأحرار الذين أعرفهم كان (ثروت) فى هذا الاجتماع كثير الأسئلة كثير الاحتمالات كثير التوقعات...
فلقد تعلمنا فى دروسنا العسكرية، أننا نحتمل ثلاثة حلول مفتوحه أمام عدونا، غير أنه كان كثيرا ما يحدث أن يأتى العدو من (الطريق الرابع) أى غير كل ما احتملنا، ومن هنا جاءت فلسفة الاحتفاظ بقوة احتياطية لا تقل عن ربع قوتنا لمقابلة هذا الاحتمال، فكنت فى هذا الاجتماع أعجب لشدة مخاوف ( ثروت) من هذا الطريق الرابع.....
وفى الفترة نفسها، الأسبوع الأخير، صحبنى (جمال) وبرفقته (عبد الحكيم) الى زيارة مفاجئة لصديق زعم أننى أعرفه، أسمه (أحمد فؤاد) وكان يقطن فى (منشية البكرى) فلما قلت له أننى لا أعرف لى صديقاً بهذا الأسم، نظر الى (عبد الحكيم) نظرة ذات معنى، وقال (جمال) أحمد فؤاد القاضى ألا تعرفه، وفى الحقيقة أنى لم أكن قد سبق لى معرفته فأكدت له عدم معرفتى به فقال ولكنه يعرفك قلت: ربما أذكر اذا رأيته، وكنا قد وصلنا الى بيته فعلا، ولما دخلنا منزل السيد (أحمد فؤاد) تصادف وجود صديق شيوعى كانت لى به معرفة وثيقة وقديمة وكان هذا الصديق هو الاستاذ (كمال عبد الحليم) المحامى الوطنى والذى كان يتزعم (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى)وهى احدى المنظمات الشيوعية وكان يرمز لها بأسم (حدتو)، واعترف (أحمد فؤاد) اننى لم تكن لى به سابق معرفة، فزال ما كان عند (جمال) من شك فى أننى كنت أكتم الحقيقة بدافع السرية...
وفى هذا اليوم عرفت من (جمال) أنه سيذهب هو وعبد الحكيم لمقابلة بعض (الأخوان المسلمين) كما عرفت أنه على اتصال (بالوفد)، وتيبنت أن (جمال) كان يضع جميع الخيوط فى يده وأنه كان (الدينمو) الذى يحرك التنظيم، ولم أشعر بغضاضة من ذلك ما دام يسير حسب البرنامج الذى ترسمه منشورات الضباط الأحرار والخط السياسى الوطنى الذى ترسمه هذه المنشورات، فليكن القائد أى واحد منا، الى أن نقوم بدورنا المرسوم بتوجيه ضربتنا الى النظام الملكى الفاسد والعودة الى ثكناتنا كما هو مرسوم ومتفق عليه بيننا...
أما الحادث الأخير فى تطورات الأيام الأخيرة وربما كان فى الثلاثة أيام الأخيرة فكان حادثا مؤسفا أشد الأسف بالنسبة لى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق