مدينة العريش واجتماعات الضباط الأحرار

فى صيف سنة 1952 وقبل قياك الثورة بشهر أخذنى والدى مع اخوتى الى العريش لنقضى العطلة المدرسية، وكان يعيش فى منزل صغير بجوار محطة السكة الحديد وقريب من الشاطئ، وكنا فى أواخر شهر رمضان وجاء عيد الفطر ونحن فى العريش وكان والدى حريصا أن يأخذنا لزيارة "غزة" و "رفح" وأن نستمتع بشاطئ العريش الجميل بنخيله ورماله الصفراء النظيفة.
وفى أثناء هذه العطلة كان يتردد على منزلنا عدد كبير من صغار الضباط منهم عبد المجيد شديد ومحمد السقا ووحيد رمضان وعبد الخالق صبحى ومدبولى عبد العزيز (عرفت فيما بعد أنهم كانوا من الضباط الأحرار) فكانوا أحيانا يفطرون معنا أو يتسحرون وكان هذا شئ طبيعى بالنسبة لوالدى، فهو كان محبوباً جدا من ضباطه وجنوده أينما ذهب أو عمل، فلم أشك فى أن هناك شئ غير عادى يحدث بينهم، فقد كان والدى يقوم بعملية تمويه بأن ينظم كل ليلة مجموعة (فريق) يقوم بمبارة فى لعب (الكانستا) وهى لعبة كوتشينة تستغرق وقتا طويلا ويتكون كل فريق منها من 4 أفراد وتحت ستار هذه المباريات كان يتم اجتماع الضباط الأحرار بوالدى.
وفى يوم 13 يوليو سنة 1952 تحرك أبى الى القاهرة بمقدمة الكتيبة وركبت أسرته معه فى القطار المتجه من العريش الى القاهرة وأذكر ونحن فى القطار عندما مر ليعبر كوبرى الفردان الذى كان يربط شرق القنطرة بغربها كنت واخواتى محمد ومحمود وحسين ونعمت ننظر من الشبابيك ونرى الجنود الانجليز بوجوههم الحمراء وشورتاتهم وصدورهم العارية يجلسون على جافة قناة السويس ويستحمون فيها فكان اخوتى، وهم صغار، يهتفون بالانجليزية: "يو آر دوج".
وقبل مغادرة العريش بأيام ذات صباح كنت أتجول بالحوش الأمامى للمنزل فوجدت ورقة على الأرض يبدو أنها سقطت من أحدهم ولم يلحظها فأخذت الورقة، وقرأتها فأذا بها أحد (منشورات الضباط الأحرار) بها كلام خطير عن الملك وعن الجيش وعن ضرورة الاصلاح والتغيير من أجل الشعب، فأخذت المنشور وجريت الى والدى وأخبرته بما حدث فانزعج جدا وأخذه منى وطلب بحزم أن أنساه ولا أذكره لأى انسان، فعرفت أن هناك شئ خطير يقوم به هؤلاء الضباط مع والدى.
وبعد عودتنا الى القاهرة من العريش بعدة أيام "كان والدى متعودا أن ينام بعد الغذاء وكانت تعليماته مشددة ألا يزعجه أحد أثناء النوم، وكان لا يجرؤ أى فرد من الأسرة أن يقترب من غرفته" فى هذا اليوم دق جرب باب منزلنا بحلمية الزيتون، وفتحت لأجد رجلا فارع القامة أسمر اللون يرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض ويقف على سلم الفيلا ويسأل عن والدى (كان هذا الرجل هو جمال عبد الناصر) فترددت أن أذهب لأوقظ والدى لأننى أعرف رد فعله العنيف ولكنى تسللت فى حذر وهدؤ شديد ودخلت الغرفة وكان يبدو أن والدى يشعر بى وقلت وأنا واقفه على باب الغرفة، بعيدا عن سريره (واحد اسمه جمال عاوزك فى الخارج) وبدل أن ينهرنى والدى وجدته يقفز من السرير بسرعة وارتدى ملابسه وخرج مهرولا، حتى اننى عجبت كيف أنه لم يعاقبنى على ايقاظه، وفى يوم 20 يوليو زاره فى منزلنا بحلمية الزيتون جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر حيث وجدوه غارقا فى النزيف، حيث أخذ يرجع من فمه دماء كثيرة وكنا نضع له الأوعيه لكى يرجع فيها الدماء، حيث أبلغوه أنه تقرر القيام بالعمل فى ليلة 23/22 يوليو بصفة نهائية، وعلمت بعد ذلك من والدى أن الصديقان عندما وجداه على هذا الحال رأيا الغاء دوره كلية واعفائه من العمل فى هذه الليلة التى أنتظرها طويلا، ولكنه أقنعهما بأنه يمكنه القيام بالدور المرسوم له بدون أى تعرض للخطر، حيث أن هذا الدور المرسوم كان عبارة عن أنه يحضر بقوته الصغيرة المكونه من 60 جنديا ولا يزيد تسليحها عن البندقية وأن يصحب معه 40 لورى ويحضر هذه القوة الصغيرة الى رئاسة الجيش (بعد احتلالها) واذا استدعت الحالة فان المستشفى العسكرى العام بكوبرى القبة سيكون على بعد خطوات من القيادة العامة.
وفى ليلة 23 يوليو حضر أبى الى منزلنا فى حلمية الزيتون وعلمت منه أنه فى طريقه الينا كان معه الأستاذ محمود توفيق ابن خاله (الذى تزوجنى بعد ذلك) وأخذه الى الدكتور عبد العزيز الشال بشبرا حيث أعطاه حقنه لوقف النزيف الذى كان يخشى أن يعاوده ليلا لأنه سيقضى الليل فى المعسكر وأنه جاء ليسلم علينا ويعطى والدتى بعض النقود ويسألها أن كانت تحتاج لشئ وكان والدى دائما يتفاءل بها قبل قيامه بأى شئ، ولاحظت والدتى أنه كان فى حالة انفعال شديد وفى عينيه بريق غريب وشعره مهوش والبوشيرت الرسمى مفتوح الصدر فقالت له "مالك يا يوسف عامل كده" ماتكونش رايح تفتح (عكا) وكان قد نزل من سلم التراس فاستدار رجاعا اليها وسألها باستغراب (لأنها لا تعرف شيئا عن موضوع الأنقلاب) ماذا قلت؟ فأعادت ما قالته فرد عليها قائلا نعم سأفتحها وانصرف، وفى صباح اليوم التالى أرسلت حرم محمد نجيب تطلب والدتى للزيارة وكانت صديقتها وجارتها، فلما ذهبت والدتى اليها سألتها عن والدى فقالت لها أنه فى المعسكر، فأخبرتها بأمر الانقلاب العسكرى والبيان الذى أذيع فى الراديو ولم تكن والدتى تعرف عنه شئ فعادت مسرعة الى المنزل وأخذنا فى الاستماع الى البيان والى أخبار الانقلاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق