بقلم: إكرام يوسف
6 مايو 2011
سألت زميلة صحفية
في أواخر العشرينيات من عمرها: هل تعرفين الفريق سعد الشاذلي؟ فأجابت بالنفي! لذلك
لم أفاجأ كثيرًا عندما نفت زميلة مجايلة لها معرفتها بيوسف صديق، الذي قال عنه جمال
عبد الناصر عام 1962 إنه لولاه لفشلت الثورة!
ولم يعد خافيا ما
أحدثته عقود من الحكم الديكتاتوري الفردي من إفساد لكل مناحي الحياة في الوطن الذي
نكِّب بحكم من لا يعرفون قدره، فكأن أول ما حرصوا على إفساده عمدا، عقول أجيال تربت
في عهودهم ، حرصوا على سلبها الوعي وإفقادها الانتماء، والفصل بينها وبين نوافذ المعرفة
والتعلم من دروس التاريخ، وعاثوا فسادا في حقول التعليم والثقافة والإعلام.. فكان ما
كان!
ومنذ أسابيع، مرت
في صمت مخجل ذكرى وفاة واحد من رموز هذا الوطن وعشاقه؛ البكباشي يوسف صديق الذي أوكل
إليه القدر مهمة إنقاذ ثورة يوليو 1952، فهو وحده بين الضباط الأحرار ـ ومعه جنوده
بالطبع ـ الذي قام بمهمة إلقاء القبض على قادة جيش الملك، وما أن أنهى المهمة حتى جلس
في انتظار مجيء جمال عبد الناصر زعيم التنظيم لاستلام المهمة.
وعلى الرغم من أن
رفاقه يدينون له ـ بعد الله ـ بأرواحهم، التي أنقذها من الإعدام ـ عندما أصر على مواصلة
طريقه وإكمال المهمة التي لم يكن مكلفا بها، بعدما نصحه البعض بالعودة لأن الملك كان
قد علم بأمر الحركة وقادة الجيش يعقدون اجتماعا لإحباطها واعتقال الضباط الأحرار ـ
إلا أنه كان أول ضحايا هذه الثورة، عندما تجرأ وطالب رفاقه بتنفيذ ما تعهدوا به، وهو
العودة إلى الثكنات ومواصلة دورهم كعسكريين يؤدون رسالتهم في حماية حدود الوطن، بعد
طرد الملك وإجراء انتخابات حرة وتسليم حكم البلاد للمدنيين!
ومن يقرأ تاريخ الرجل،
سيجد فيه صورة من صور أبطال الملاحم الإغريقية الذين تعدهم الأقدار لأدوار فارقة في
تاريخ البشر.. وبطلنا، أعده القدر منذ جده الذي كان قاضيا غضب عليه الخديوي فنقله إلى
“طوكر” في السودان. وهناك قامت الثورة المهدية ضد الحكم المصري، فذبحه المتمردون هو
وزوجته وتركا طفلين، أشفق عليهما بستاني فوضعها في مركب نيلية متجهة إلى مصر. وعندما
وصلا توفي أحد الطفلين، وعاش الآخر ليصبح ضابطا وطنيا، غضب عليه الملك بدوره ونقله
إلى السودان أيضا، ليعود مريضا يحتضر وزوجته تحمل جنينها يوسف صديق. ويتعهد الخال برعاية
بطلنا، يحكي له عن بطولة ووطنية جده وأبيه، ويحببه في قراءة التاريخ والشعر والأدب،
فينشأ شاعرا رومانسيا ووطنيا عاشقا لمصر، عازما على التضحية بحياته من أجل استقلالها؛
وينخرط في حركة النضال الوطني ضد الاحتلال والملك ضمن صفوف الحركة الديمقراطية للتحرر
الوطني “حدتو”، وما أن يعرض عليه الانضمام إلى تنظيم الضباط الأحرار حتى يقبل فورا
مستبشرا بأن الدور الذي أعده له القدر قد حان أوانه.
وكما نعلم جميعًا،
فلم يرد طوال عقود مضت في دروس التاريخ المقررة على تلاميذنا أي ذكر لهذا الضابط الذي
اعتز بزيه العسكري .. وأصر على عدم التخلي عنه رغم إغراء المناصب، وشهوة الحكم. وكانت
جريمته أنه طالب بحكم ديمقراطي وطني للبلاد.. وتواطأ على دفن سيرته، التي يبدو ان البعض
مازال مصرا على دفنها، كل من تولى أمور التعليم والإعلام والثقافة طوال ستة عقود..
مضحين بالحقيقة، وآملين في تزييف تاريخ الوطن بغرض إخفاء أخطاء وقع فيها حكام يرى البعض
أنهم آلهة لا يخطئون.. لا بشرا ربما كانت لهم إيجابيات إلا أنها لا تخفي سلبيات وأخطاء
وآثام عديدة.
نعم، أتحدث عن عبد
الناصر، زعيم تنظيم الضباط الأحرار، ورئيس مصر الوطني، النزيه الذي له إيجابيات ملأ
تمجيدها أطنان من الكتب ولم تعد في حاجة إلى المزيد؛ لكنه أيضا الذي رسخ حكم الفرد،
فكانت هزيمة يونيو1967 وكان الأسوأ منها أنه ابتلانا بعده بحكام، رسخوا حكمه الفردي
وأضافوا إليه صنوفا من الفساد والإفساد، أتت على ما كان تركه من إنجازات، وأوغلت امتصاصا
في ثروات البلاد، وتمادت تخريبا وتدميرا في الصناعة والزراعة والصحة والثقافة والتعليم
والإعلام، وكل ما كانت تملكه مصر من مؤسسات.. فضلا عن تدمير مكانتها في العالم وإهانة
المصريين في داخل بلادهم وخارجها.
ففي عهد عبد الناصر
تخلص الضباط الأحرار من رفيقهم، الذي أنقذ حياتهم وواصل وحده إنجاز مهمة لم يكن مكلفا
بها ـ حيث كانت مهمته الأصلية هي مجرد تأمين الانقلاب وليس إنجازه، الذي وجد نفسه مضطرا
إليه بعدما خرج بكتيبته ليجد شوارع القاهرة خالية لا أثر فيها أو ملامح لتحرك رفاقه
المخطط لإنهاء حكم الملك بعدما بلغهم نبأ علم الملك بتحركهم واستعاده للقضاء عليهم.
وفي عهد عبد الناصر، أزيلت صورة يوسف صديق من الصور الجماعية للضباط الأحرار. وأراني
هنا مضطرة لذكر قصة ربما لا يعرفها كثيرون، ذكرها الأستاذ حلمي سلام الذي كان رئيسًا
لتحرير مجلة المصور عام 1953 (في حديث لمجلة صباح الخير العدد1492 يوم9 أغسطس
1984) عندما أعلنت مجلته لقرائها عن هدية العدد القادم وهي عبارة عن صورة جماعية للضباط
الأحرار، وبعد طبع العدد والهدية، استدعى عبد الناصر رئيس التحرير وطلب منه الغاء الهدية
قائلا له أنه سيتم حذف صورتي ضابطين فيها أحدهما يوسف صديق!
وعلى الرغم مما ناله
من إبعاده عن عمله العسكري الذي عشقه، واعتقاله من دون تهمة وفرض الإقامة الجبرية عليه،
إلا أن وطنيته، وسمو روحه دفعاه إلى التسامي عن الغضب لشخصه، فما أن وقعت نكسة يونيو
حتى أرسل لعبد الناصر رسالة يشد من أذره ويطالبه بالصمود ويضع نفسه رهن إشارة الوطن
جنديا يتوق لتحرير اٌرض. وما أروعه يوم وفاة عبد الناصر عندما كتب قصيدته النبيلة
“دمعة على قبر البطل” ضاربا مثلا نادرا في التسامي، ونكران الذات.
والآن، بعد قيام ثورة
يناير العظيمة، وعندما يتعهد جيش مصر برعايتها، والحرص على حمايتها لحين تسليمها إلى
حكم مدني يختاره الشعب.. فإنهم يؤكدون على نفس القيم التي تبناها يوسف صديق، في التمسك
برسالة الجيش النبيلة في الدفاع عن الوطن، واحترام الزي العسكري والتشبث به رغم إغراء
المناصب وشهوة الحكم! تحية لقائد عسكري منسي آن أوان رد اعتباره، وتحية من خلاله للجيش
المصري العظيم، الذي زخر بكثيرين أمثاله من حاملي لواء الشرف العسكري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق