على طريق الثورة

أندلعت ثورة سنة 1919 وأنا فى بداية المرحلة الابتدائية من التعليم وهكذا شاءت الأقدار أن أرى ثورة الشعب العارمة وهى تنطلق كالاعصار تدمر كل شئ، وأن أرى الشعب وهو يملك قدره ويفعل ما يشاء وأن أرى فى الجانب الآخر من الصورة كيف رد الاستعمار بأسلحته الفتاكة على ثورة الشعب الأعزل الذى لم يكن يملك غير غضبه، شاهدت المدافع الرشاشة وهى تحصد الشعب حصداً بلا هواه ولا رحمة.
وبعد أن تمكن الاستعمار من اخماد الثورة، شاهدت معسكراته المنتشرة فى انحاء البلاد وفى كل منها (ميدان ضرب نار) يبدأ فى الساعة السابعة صباح كل يوم باطلاق الرصاص على أهدافه لمدة ساعة كاملة ليسمع المصريون فى كل مكان وفى كل صباح أن (بريطانيا العظمى) كما كانت تسمى فى ذلك الزمان تملك قوة تدمير رهيبة.
وشاهدت (طوابير السير) التى كان الفرسان البريطانيون، يقومون بها من حين لآخر فى شوارع المدن وهم يمتطون خيولهم ويحملون أسلحتهم.
غير أن كل هذه المظاهر، مظاهر استعراض القوة، لم ترهبنى كما شاء بها الانجليز، وانما كانت تثير فى نفسى الكراهية لهؤلاء القوم الذين يتصرفون على هذا النحو، وتدعونى وأنا فى هذه السن المبكرة الى التفكير فى طريقة للخلاص من هذا الهوان، ولا أظن ألا أن تأثيرها كان كذلك على كا مصرى.
كان الانجليز بأسلوبهم هذا يشحنون عواطفنا بكراهيتهم ويوجهون عقولنا الى التفكير فى طريق الخلاص.
وفى سنة 1924 كنت قد أتممت دراستى الابتدائية وبدأت مرحلة الدراسة الثانوية فى مدرسة (الخديوية) وكنت أعيش فى القاهرة فى رعاية أحد أقربائى الذى كان يشرف على تربيتى مع أولاده على طريقة أهل الريف، وكان يقوم بوظيفة (ولى أمرى) أمام المدرسة، ولأن أبى كان مات قبل أن أكمل العام الأول من عمرى فقد كنت دائماً فى حاجة الى (ولى أمر) ليواجه مطالب الدراسة وشئون المدرسة كروتين.
وكان ولى أمرى هذا موظفاً صغيراً ترهقه الحياة بأعبائها وكانت فلسفته السياسيةالتى فرضها علينا أن (نمشى جنب الحيط) وكان تفسير هذا الشعار أن لا نعرض أنفسنا لأى خطر وكان يرى أن الشبان الذين يقومون بالمظاهرات ويشتبكون فى معارك مع البوليس أو الانجليز أحيانا هم شبان (مجانين) يعرضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع، ولذلك كانت أوامره الصارمة لنا أن نعود بسرعة الى المنزل بمجرد سماع النداء الى الاضراب.
وبطبعى الريفى نفذت الأمر حرفياً فى المرات الأولى من الاضراب، وكانت الاضطرابات فى هذه الأيام كثيرة.
وذات مرة وأنا فى طريقى الى المنزل تنفيذا للأوامر، شاهدت جمعاً من طلاب قد التفوا حول خطيب منهم قد اتخذ مكاناً عاليا يخطب منه، ووجدتنى ميالا لمخافلة الأوامر، وثارت فى كيانى معركة بين الواجب والميل، فواجب الاخلاص لولى الأمر أن انفذ الأوامر والميل يحرضنى على الثورة على هذه الأوامر والبقاء مع زملائى، وأخيراً قررت أن أتخذ حلا وسطاً، أقف وأسمع، ثم أنفذ الأوامر بالذهاب الى المنزل ووقفت.
وتكلم الخطيب وكان شابا فى السنة النهائية بالمدرسة أى طالب (بكالوريا) وهو الأسم الذى كان يطلق على (الثانوية العامة) فى هذه الأيام، وشرح الخطيب الأسباب التى تدعونا الى الاضراب فى ذلك اليوم وشرح الموقف السياسى العام وبين أن واجبنا نحو الوطن يدعونا الى الاسهام فى معركة المصير بكل ما نملك من قوة ثم دعانا خطابة الى أن نتوجه الى (بيت الأمة) الأسم الذى كان يطلق على بيت الزعيم الخالد (سعد زغلول).
وفى الحقيقة أن الخطيب قد أتخذ بمجامع قلبى وحرك فى أعماقى ذلك الشعور بالكراهية للانجليز الذى كان مختزنا فى قلبى ووجدت أن لكامه كان حقاً وأضاف الى ملعوماتى كثيراً مما كنت أجهله من دوافع الكراهية للمستعمر والتفكير فى الخلاص منه.
ولما تحركت المظاهرة نحو (بيت الأمة) لم أتردد فى ملازمتها ولما برز لى الوعد الذى كنت قد أخذته على نفسى بأن أسمع وأذهب بررت سلوكى فى ملازمة المظاهرة بسببين أرضيانى أما أولهما فهو أن الرحلة الى (بيت الأمة) هى بعض رحلتى الى المنزل وأما الثانية فأننى لا شك سأستأنف السمع لأن (سعد زغلول) كان لابد سيخطب وبعد سماع (سعد) أذهب محافظا على وعدى.
وعند (بيت الأمة) وجدنا آلافا من الطلبة من المدارس الأخرى ومن الجماهير قد أخذت مكانها فى انتظار خطاب (سعد).
وظهر (سعد) فى شرفة (بيت الأمة) فقابلته الجموع بالهتافات المدوية التى تنطق بالشعارات الوطنية حتى بدأ (سعد) يتكلم فأنصت الجميع كأن على رءوسهم الطير...
 وبطبيعة الحال كان انفعالى بكلام (سعد زغلول) أضعاف أضعاف بالطالب الخطيب وبالرغم من أن (سعد زغلول) نصحنا فى نهاية خطابه بالانصراف مما أتاح لى فرصة تنفيذ وعدى بأن أسمع وأذهب الا أننى ذهبت وأنا مقتنع تماما بفساد.. شعار، (المشى جنب الحيط) وأحسست بأن (ولى أمرى) لا يصدقنى النصح وقررت أن أشترك فى كل مظاهرة مقبلة وليكن مايكون.
وفى سنة 1925 كنت قد ضقت ذرعاً بأولياء الأمور وكانوا هم كذلك قد ضاقوا بى ذرعاً، فآثرت الاستقلاق فى حياتى وكان لى بعض أقرباء فى الجيزة من الطلاب الذين يقاربوننى فى السن فحولت أوراقى الى المدرسة الجيزة الثانوية التى أنشئت فى نفس العام لأعيش معهم، وكانت المدرسة فى سراى الأورمان بالجيزة.
وفى هذه السنة: 25، 26 الدراسية أنطلقت  على سجيتى فى الاسهام فى المظاهرات، فدخلت المعارك مكراً مفراً مقبلا مدبراً معاً على حد تعبير امرئ القيس وأرضيت ما اختزنته فى نفسى من كراهية للاستعمار واعوانة وأذنابه الى حد كبير.
وفى العام التالى كان بعض أصاقائى من الطلاب الذين كانوا يدرسون فى مدينة (بنى سويف) وهى عاصمة (مديريتنا) أى محافظتنا بلغة العصر قد أقنعونى بأن (أحول) الى مدرسة (بنى سويف الثانوية) لتجمعنى بهم أيام الدراسة وأيام العطلة جميعاً فقد كان الحب الذى بيننا لا تكفيه أيام العطلة وحدها فاستهوتنى الفكرة ونفذت.
وكنت أعتقد أن ما يجرى فى القاهرة يجرى فى كل أنحاء القطر غير أننى فوجئت بأن الأمر يختلف كثيراً ففى (بنى سويف) لم تكن الاضربات كثيرة كما انها لم تكن تزيد فى المناسبات المهمة عن مجرد الاحتجاج بتعطيل الدراسة فلم يكن هناك مجال للمعارك.
وبعد حصولى على شهادة (البكالوريا) دخلت المدرسة الحربية سنة 1930، والدراسة فى المدرسة الحربية شاقة فهى تتطلب مجهوداً جسمانياً شاقاً مع الدراسة فى العلوم العسكرية ولعل أحسن تعبير عن هذه الحياة هو النشيد الذى كان كل الطلبة يحفظونه عمن سبقهم والذى كانوا ينشدونه فى طوابيرهم الطويلة وكأن يقول:
شمال يمين شمال يمين
تلات سنين فى الحربية
شغل كتير وراحة مفيش
وصنف حريق ونبطشية

وصنف الحريق هو خدمة تقوم بها الواحدات لتكون مسئولة عند حصول حريق وهى خدمة أسبوعية تحرمهم من الأجازة الأسبوعية والراحة فى يوم الجمعة (والصنف) بكسر الصاد هو أصغر وحدة عسكرية فصنف الحريق هو الصنف الذى عليه القيام بهذه الخدمة ويتغير كل أسبوع.
وبطبيعة الحال جيش (جلالة الملك) ممنوعاً من التدخل فى السياسة أو الانشغل بها حتى لقد كانت قراءة جريدة أو مجلة تعتبير جريمة.
غير أن حياتنا فى المدرسة الحربية كانت تضع أمامنا صورة تشعرنا دائماً بسيطرة الانجليز وتحرك فينا عوامل كراهيتهم فلقد كانت السلطة كلها فى يد الانجليز على الرغم من وجود مدير مصرى للكلية ولكننا كنا نشعر بوضوح أن السلطة كلها فى يد كبيرة المعلمين وهو انجليزى وكان هناك بعض المدرسين من الانجليز حيث كانت قيادة الجيش كلها فى يد الانجليز فكان (أسكتش باشا) على رأس الجيش يعاونه بعض الانجليز فى المناصب الحساسة.
وفى سنة 1933 تخرجت من الكلية الحربية وعينت ضابطاً بالجيش برتبة الملازم الثانى وكان بديهياً أن أعين فى (السلوم) لأننى لست من أهل الوسائط، وسافرت الى (السلوم) لأبدأ حياتى كضابط فى الجيش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق