صول التعيين

عينت أكثر من مرة عضواً فى لجنة لمفاجآت (مخزن تعيين) الكتيبة بالتفتيش، وكان ذلك يتم بناء على تعايمات من المخابرات تقول انه شوهد يبيع تموينا على عربة كارو لبعض التجار، أو أنه شوهد عليه ثراء مفاجئ أو مثل هذه الأشياء التى تجعله موضع اتهام، وفى كل مرة جردنا المخزن وجدنا به (زيادة) ولم نجد نقصاً أبداً، وفى كل مرة جردنا المخزن وجدنا به (زيادة) ولم نجد نقصاً أبداً، وكذلك كل اللجان الأخرى، وكنا فى كل مرة نوجه (جواب شكر) للصول المظلوم، رداً لاعتباره وذات يوم كنا فى (الاسكندرية)، وضبطت (صول تعيين الكتيبة متلبساً بسرقة خروفمن الخراف المخصصة لجنود و 60 جراية، والجراية هى العيش المخصص للجند وعددها 3 أرغفة.
وبدأت معه اجراءات تقديمه للمحاكمة، فبكى واستعطفنى وقال أنه مستعد لاعادة المسروقات والتوبة على يدى، فقلت له أنى أقبل هذه التوبه على شرط أن تصدقنى فى الأجابة على سؤال واحد فوعد فقلت له: كيف يسرق صول التعيين (المخزن)؟.. فقال لى، أنه يقتص من تموين الجنود كل يوم كمية من مختلف الأنواع تبقى فى المخزن إلى أن يتم له جمع كمية من الصفائح الكاملة أو الأجولة الكاملة، وحين يذهب لإستلام الصرفية القادمة من مخازن التعيينات يتوجه بها من هناك رأسا إلى التاجر الذي يبيع له ، فهذه الزيادات التي نوجه إليه عنها جوابات الشكر كانت هي رصيده المختزن ، وهكذا كنت كلما طالت بي الخدمة أشاهد جديداً مما يختزن الثوره في نفسي.
وكان اخطر صدماتي مع القواد تلك التي عرضتني للوقوف أمام مجلس تحقيق لأول وآخر مرة في حياتي العسكرية.
كان قائد الكتيبة مشهوراً بشدته وصرامته-وكنت قد أصبحت أقدم الملازمين في الكتيبة. وكنت أنا ومجموعه الملازمين قد قمنا بمجهود غير عادي لمدة ستة شهور في تدريب الجنود على سلاح (مدفع الماكينة) الذي كان يدخل تسليح الجيش للمرة الأولى فكنا نعمل 6 طوابير تدريب يومياً .
وأذكر من بين هؤلاء الظباط الذين أسهموا في هذا العمل الشاق المضني (صلاح الدين الحديدي-وصلاح الدين محسن) ، وكلاهما كان في رتبة الفريق الأول فيما بعد،وضرب النار بأي سلاح يعتبر نهاية التدريب عليه.
وجاء يوم ضرب النار ، وكان يجري في الصحراء في ميادين مخصصة له ، ولما وصلنا إلى الميدان حضر سعادة البك القائد ، وترجل من على حصانه وأخذ يصدر أوامره للجنود ولم يرض عن تحركاتهم فقال لهم بصوت مرتفع "يلعن أبوكم على أبو اللي علموكم " فتحملتها على مضض حتى ينتهي (ضرب النار) وكان سيحضره الضابط الإنجليزي الذي يشرف على التدريب.
وانتهى ضرب النار بنجاح يساوي ما بذلناه من جهد ، ووجه الضابط الإنجليزي شكره للقائد وللضباط وصف الضباط الذين قاموا بالتدريب.
ولما عدنا للقشلاق في العباسية ، طلبت مقابلة القائد فوراً ، فلما دخلت عليه مكتبه ، دارت بيني وبينه مناقشة حادة أفرغت فيها كل ما كان في نفسي من غضب ، واستكتبني بعض العبارات الشديدة التي وجهتها اليه في هذا الحساب القاسي فكتبتها ووقعت عليها ، وكنت أوجه إليه عبارات قاسية ولكن ليس فيها خروج عن الأدب أو القانون ولكن كلها حق.
ولست أدري كيف عرف (ضباط الصف) بالأمر ،فحين خرجت من مكتبي وجدتهم وقد وقفوا صفاً طويلاً أمام المكتب في حالة (تظلم) يريدون مقابلة القائد الذي وجه اليهم كلاماً (غير قانوني) في ميدان ضرب النار فجازاهم على جهودهم المضنية التي رفعت رأس الكتيبة عالياً جزاء سنمار.
وتوجهت إلى مكتبي ، ولم تمض دقائق حتى حضر إلى مكتبي (قائد ثاني) الكتيبة ، وهو الضابط الذي يلي القائد في الرتبة .
طلب إلى القائد الثاني أن أتوجه إلى مكتب القائد لأصرف (ضباط الصف) لأنه يعلم أنني الضابط الوحيد الذي يستطيع عمل ذلك لأن (ضباط الصف) كلهم يحبونني ويحترمونني.
فقلت له أنه هو قائد الكتيبة ، وما أنا إلا ملازم صغير فإن كان هو لا يستطيع أن يصرف (ضباط الصف ) فأنا أصغر من ذلك بكثير ، أما إذا كان سعادته واثقاً من أنني أستطيع ذلك فليحضر الي بنفسه ويطلب الي ذلك.
وبعد مناقشة حول (هيبة القائد) ، قبلت الرجاء وذهبت إلى حيث يقف ضباط الصف وأصدرت لهم أمري بالإنصراف فانصرفوا بلا تردد ، وبدل أن يشكرني القائد على إنقاذه من موقفه الحرج ، طلب تقديمي إلى مجلس تحقيق موجهاً الي تهمة (إحداث فتنة في الجيش) .
وأمام مجلس التحقيق اتضحت الحقيقة ، والحقيقة أنني لم أكن قد حرضت ضباط الصف على سلوكهم وكان في كلامي العنيف للقائد دفاع عن ضباطنا الذين خدموا (في السودان) ، وقال القائد أنهم كانوا يضربونهم بالأحذية فيتقبلون ذلك في رضا وحنوع ، وكان أعضاء مجلس التحقيق كلهم ممن خدموا في (السودان) وكان قرار المجلس في صالحي ووجه اللوم إلى القائد وحضر إلي اعضاء مجلس التحقيق ليشكروني بأنفسهم على دفاعي عنهم وعن كرامتهم ، وكان هذا الحادث مشجعاً لي على الإستمرار في أسلوبي في العمل حيث بين لي أن القائد الحقيقي للجنود هو القائد الذي يحبونه لحسن معاملته لهم والإخلاص في تعليمهم وإقامة العدل بينهم.
وعشت باقي خدمتي في الجيش حتى قيام الثوره وانا اشعر بأنني القائد الفعلي للكتيبة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق