اللقاء مع (الشيوعيين)

كان الاستعمار الذى جثم على صدرنا وسيطر على كمل مقاديرنا وتحكم فى كل شئ فينا حتى ثقافتنا، قد نجح فى دعايته ضد (الشيوعية) عدوته الرئيسية، لدرجة أن المسلم من أمثالى، وبصفة خاصة الريفى يبسمل ويحوقل ويستغفر الله العظيم لمجرد ذكر أسمها، فقد كانت الدعاية تصور لنا أن الشيوعية تعنى شيئاً واحداً لا غير وهو (الالحاد) وكأنما كل ما جاء به ( كارل ماركس) للبشرية وكانت البشرية فى غفلة عنه هو (أن الله غير موجود).
وكان لقائى مع (الشيوعيين) فى الأربيعينات، أى أنه كان قد مضى على ثورة أكتوبر أكثر من عشرين عاماً، وكانت قد حققت انتصارات كثيرة وكان أبرزها فى الأربيعينات هو هزيمة النازية التى لم تكن ممكنه بدون أشتراك الشيوعيين فى الحرب.
كل ذلك كاا كافياً لأن يجعلنى أعيد النظر فى أمر (الشيوعية) وكنت قد أصبحت فى الثلاثينيات من عمرى، وأصبحت نظرتى للأمور أعمق منها فى أيامى الخالية بحكم تقدمى فى السن واتساع آفاق خبرتى، فرأيت أنه ليس من المعقول أن تصل الدولة الروسية فى مدى نحو ربع قرن من الزمان الى ما وصلت اليه فى ظل نظام لا جديد فيه الا ان (الله غير موجو).
وربما دفعنى اسلامى وايمانى بالله الى الأخذ بأن النظام الذى يدفع بدولة هذه الدفعة فى مثل هذه الفترة لا بد أن يكون قائما على أسس ترضى الله سبحانة وتعالى، فلقد كانت الماركسية تنتشر على الأرض بسرعة لم يسبقها اليها غير الاسلام.
وكانت (الماركسية) قد أصبحت عندى أمراً يمكن للمرء أن ينظر فيه لا أن يقابله بالبسمله والحوقله والاستغفار.
بدأت أنظر فى (الماركسية) فى ريبة مسبقة وحذر شديد وحصنت نفسى بمضاعفة اجتهادى فى الدين علماً وعملا فى الوقت نفسه ففى الوقت الذى بدأت أنظر فيه فى أمر (الماركسية) ازدادت قراءتى فى الثقافة الاسلامية، كما حرصت على أداء وأجباتى الدينية بالتزام أدق، وكنت أسأل الله تعالى أن يجنبنى شر الانزلاق الى الضلال فى دعواتى.
على هذه الصورة بدأت أنظر فى (الماركسية) وقدم لى أصدقائى من الشيوعيين الكثير من الكتب التى قرأت كل سطر منها فى ريبه وحذر.
على هذه الصورة بدأت أنظر فى الماركسية.
وأننى أسجل هنا انطباعاتى وانفعالاتى عن الماركسية قبل أن أتركها فى سنة 1950 لألتحق (بالضباط الأحرار).
فأرى أن (الشيوعية) هى شئ لا وجود له فى عالمنا الحاضر ، وانما هى نظام اجتماعى واقتصادى سوف تتمخض عنه (الاشتراكية) كما تنبأ بذلك (كارل ماركس).
أى أن النظام الموجود حاليا هو (الاشتراكية)، ولا نستطيع أن نقرر متى ستتمخض (الاشتراكية) عن (الشيوعية) فقد يستغرق ذلك قرناً من الزمان وقد يطول الى قرون، ولست أدرى لماذا تسمى الأحزاب التى تطبق الاشتراكية نفسها باسم الشيوعية، فالحزب الشيوعى هو الذى يمارس تطبيق الشيوعية، وليس هناك حزب على الأرض يفعل ذلكحالياً ولكن الأحزاب الموجودة كلها تمارس التطبيق الاشتراكى، فكان ينبغى أن تحمل اسم (الحزب الاشتراكى)، لأن الشيوعية كما تصورها (كارل ماركس) تحى صورة للحياة قد لا يقبل الانسان المعاصر بعض مفاهيمها، ثم أن نقبل تعاليمه وتصوراته عن المستقبل بلا مناقشة فلربما تتغير الأمور فى أثناء التطبيق الاشتراكى ويهتدى العلماء الذين يجتلون أسرار الكون ويصلون الى القمر ويحاولون الوصول الى العوالم الأخرى، ربما يهتدى هؤلاء الى التسليم (بوجود اله وتقبل البشرية على المرحلة التى ستتمخض عنها الاشتراكية فى ظل الايمان وتتعلم بالسلام والرخاء ويفرغ الانسان الى عبادة (الله) الذى قال: (وما خلقت الانس والجون الا ليعبدون).
فتسمية الأحزاب باسم (الشيوعية) قد أساء اليها وأعطى للمؤمنين فرصة لكراهيتها، أو سهولة التأثر بالدعاية ضدها فى هذا الاتجاه.
وكذلك فقد أسهم بعض (الشيوعيين) المحليين، فى الاساءة الى الشيوعية بما كانوا يجاهرون به من أعلان الحادهم وعدم مبالاتهم بالدين، والسخرية من المصلين والأفطار جهراً فى رمضان وقد رأيت صوراً من ذلك فى الريف ورأيت تأثيرها فى الناس البسطاء وكيف نفرتهم هذه الأساليب من الشيوعية.
ولذلك أرى أن أعبر عن الشيوعية فيما يلى (بالاشتراكية) أن الحزب الذى يحكم (الاتحاد السوفييتى) والذى يسمى نفسه بالحزب الشيوعى لم يفرض الالحاد على شعوب الاتحاد السوفيتى وما تزال الأغلبية الساحقة من شعوب الاتحاد السوفيتى من المؤمنين الذين يقيمون شعائرهم الدينية بحرية كاملة فى مساجدهم أو كنائسهم وتحوى الجمهوريات السوفيتية فى منطقة القوقاز تراثا اسلامياً فاخرا من المساجد والأضرحة ساعد الحزب على ترميمها وهناك سجل كبير يحوى هذه الآثار مصوره فى صور ملونة فاخرة لا تدل اطلاقا على أن الحزب يعادى الأديان أو يضطهدهان وفى ظل الاشتراكية نستطيع أن نقول أن الدين الاسلامى هناك قد ازدهر وأنجب أعلاما أسهموا فى اثراء تراثها الاسلامى.
وأستطيع أن أقرر، دون أن أعمل داعية للاشتراكية العلمية الماركسية، أننى فى كل ما قرأت وسمعت فى مناقشاتى، أو فى المحاضرات التى استمعت اليها حول الاشتراكية، فى كل ذلك لم أشعر بما يهدد عقيدتى أو يمس دينى.
كما أستطيع أن أقرر وأنا مطمئن على عقيدتى ودينى أننا اذا استبعدنا قضية (الالحاد) التى لا تفرضها الاشتراكية على أحد ولا تعتنقها غير قلة من الشعوب الاشتراكية الرائدة، فان كل ما تحويه الاشتراكية بعد ذلك يطابق الاسلام.
فالاشتراكية تقوم أساساً على تحقيق (العدالة الاجتماعية) فهى تقدس (العدل)، والاشتراكية تعمل على تحقيق (السلام) على الأرض وأن تقوم المحبة والتعاون بين الناس محل التنافس والتناحر والاشتراكية لا تفرق بين الناس لأنسابهم ولا أحسابهم ولا ألوانهم وانما مقياس كل انسان عندها هو (عمله الصالح)، كما نحد أن الاشتراكية تعمل على الغاء (استقلاق الانسان للانسان) ولما كان الربا نوعاً من الاستغلال فقد ألغيت الاشتراكية (الربا) فى بلادها ومتجمعاتها.
وأنا حينما أتحدث عن الاشتراكية العلمية الماركسية، أتحدث عنها (كنظرية) قابلة للتطبيق، ولا يعيبها اذا كانت بعض البلاد قد طبقتها بصورة لا يرضى عنها بعض الناس، كما لا يعيبها اختلاف الدولتين الرائدتين فى تطبيقها وان كان هذا الاختلاف عندى هو بعيد عن الجوهر حتى اننا نرى أن الجانبين المختلفين (روسيا والصين) يكونان فى صف واحد فى أغلب القضايا العالمية الحساسة، فنراهما يتفقان فى موقفهما من قضية (فيتنام) و (أزمة الشرق الأوسط) كما نجدهما دائما فى عون كل البلاد التى تناضل فى سبيل تحررها من الاستعمار.
فليس العيب فى النظرية ولكنه فى المطبقين، وعندى أن الاشتراكيين هم قوم ينكرون اله بأقوالهم ويعبدونه بأعمالهم، فهم قوم يؤمنون بالانسان والعلم ويقدسون الحق والعدل والسلام وهذه كلها سمات المؤمنين، ورب سائل يسأل: وما الذى يجعلنا نأوى الى نظرية من صنع البشر وعندنا الاسلام؟... ولعل خير رد على ذلك هو فشل (الاخوان المسلمين).
وقد يكون (الاخوان المسلمون) أنفسهم قد أسهموا فى فشل قضيتهم الا أن محاولاتهم (احياء الاسلام) فى مجتمع غير اسلامى كان هو السبب الرئيسى فى فشل دعوتهم، فالذى قتل (المرحوم حسن البنا) (ملك)، والملك بطبيعته لا يمكن أن يكون (مسلما، لأنه جاء الى الحكم بطريقة غير التى يقرها الاسلام، طريق الشورى، والنبى عليه الصلاة والسلام لم يعين من يحكم المسلمين بعد وانما ترك الأمر لأصحابه، للشعب، واختار الشعب (أبا بكر) رضى الله عنه وأرضاه فحكم.
وظل الحاكم يتولى الحكم عن طريق (الشعب) حتى جاء (معاوية بن هند) فقوض الدعامة الأساسية التى يقوم عليها الحكم فى الاسلام وجعلها ملكية وراثية، وبحد السيف فرض (معاوية) أبنه الفاسق الفاسد (يزيد) ليحكم الناس، وقال له الناس: ان الله يقول: فقال: ولكنى أقول والسيف بينى وبين من يعصى ما أقول..
وكان أول من قام به الاسلام بعد استقراره فى جزيرة العرب هو أن داس تيجان الأكاسرة والأباطرة بأقدام الشعوب، والقرآن قد هاجم الملكية والملوك فى أكثر من موضع منه، وفى سيرة رسول الله "صل الله عليه وسلم"، أن عمرا زاره ذات يوم فوجده ينام على فراش خشن قد أثر فى جلده، فأشفق عمر رضى الله عنه على حبيبة وقال: يا رسول اله هلا اتخذت لك فراشاً ليناً؟ فأجاب الرسول ويحك يا عمر، انها نبوة لا ملك.
وكان طبيعيا أن ينتكس الاسلام وان يصل الى ما نحن عليه من ذل وهوان، ولا شك فى أن الاسلام يحوى كل ما فى النظرية الماركسية من خير، ويزيد عليه ما فى الأيمان من قوة مستمدة من تأييد (القوى العزيز).
ولا شك كذلك فى أن محاولة احياء الاسلام ستعرضنا لكثير من الجدل والخلافات حول التفسير تقودنا الى حرب أهلية فى داخل الوطن العربى وتصرفنا عن عدونا الحقيقى، وتضعنا فى الوقت نفسه فى عداء مع العالم شرقه وغربه فالمجتمع الاسلامى الذى يحمى مثل هذه الدعوى غير موجودة، والاسلام نفسه كعقيدة لا يوجد الا فى المصاحف وقلوب بعض المؤمنين، غير أنهم أفراد متفرقون فى الوطن العربى لا تجمعهم رابطة ولا حول لهم ولا قوة.
ثم ان الزمن قد تطور تطوراً كبيراً بحيث أن أحياء الاسلام الذى كان قائما فى عهد (الخلفاء الراشدين) لا يصلحفى هذه الأيام، فلو أن الاسلام بقى حيا وسار مع الزمن لكان لنا اليوم أسلام متطور، فالاسلام دين نزل للبشرية ليلائم كل زمان فهو يتطور مع الزمن.
لما حضرت (عمر) رضى الله عنه الوفاة، أمر بتشكيل لجنة من عدد من الناس الذين يراهم أهلا للخلافة ووضع فيها أبنه (عبد الرحمن بن عوف) أحد هؤلاء الناس وأعلن زهده فى الخلافة فكلفوه باختيار أحدهم.
وكان (على بن أبى طالب) كرم الله وجهه محل اختيار عبد الرحمن فلما اجتمع الناس فى المسجد لأعلان النتيجة، وجه (عبد الرحمن بن عوف) الكلام الى (على) كرم الله وجهه قائلا: هل نبايعك على ان تسير بنا سيرة الرجلين (يقصد أبا بكر وعمرا)، فأجاب (على).... لا.
ولم يناقشة (عبد الرحمن) وتحول عنه الى (عثمان) وسأله السؤال نفسه فلما أجاب بنعم.. كانت له الخلافة.
وعلى بن أبى طالب هو من هو الاسلام، وليس هناك من يجهل مكانه ورسوخ قدمه فى الأسلام، فهو حين أجاب بـ (لا)، أنما كان يعنى أن لكل زمان سيرته فى الأسلام وأن ما كان فى عهد (الرجلين) ربما لا يتمشى كله مع العهد القادم فالاسلام لم ينزل لزمن (الرجلين) ويتجمد عنه هذا الزمن وانما يتطور مع تطور البشرية.
والبشرية قد دفعت ثمناً غالياص من دمائها وأرواح شهدائها بحثاً عن الحقيقة، عن الحياة الأفضل للانسان، حتى وصلت فى أيامنا هذه الى أن (الاشتراكية) هى الحل للقضية الانسانية.
والاشتراكية كما سبق أن تتلاقى مع الاسلام فى كثير من النقاط الحساسة، فتعاوننا مع المعسكر الاشتراكى مع احتفاظنا وتمسكنا بديننا هو أقصر الطرق لاحياء الاسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق