بقلم سعد كامل - جريدة الأخبار - 1988/7/31
اتصل بى الأستاذ حسين صديق، ابن البطل الراحل العقيد (القائمقام) يوسف صديق، وقال أنه توجه لزيارة المتحف الحربى، وفى احدى القاعات التى خصصت لتماثيل أعضاء مجلس قيادة الثورة ليلة 23 يوليو سنة 1952 وانه فوجئ باثنى عشر تمثالا فقط، ليس من بينهم والده يوسف صديق، ولا الضابط (ولا أعرف رتبته) عبد المنعم أمين. وأنه دهش من جرأة القائمين على المتحف، فى انكار ما هو ثابت تاريخيا، بالصورة والصوت فى الصحف والاذاعة وفى الكتب العربية والأجنبية التى تحدثت عن ثورة يوليو، سواء كانت تناصرها أو تناصبها العداء، لم تنكر أن يوسف صديق، كان القائد الأول لفرقة الصدام ليلة 23 يوليو، والذى اقتحم بالقوة ومن معه من ضباط وجنود بشجاعة قلب لا يعرف الخوف مركز قيادة الجيش. وقبض على القادة الموجودين فيه، ومن كانوا فى الطريق اليه، وبعد ذلك توالت تحركات قيادات الضباط الأحرار من مواقعها بعد أن نجحت الضربة الأولى.
ويروى الكاتب أحمد حمروش فى كتابه "قصة ثورة يوليو" دور (القائمقام) يوسف صديق، سأحاول أن أقدمه للأجيال الجديدة التى لم تعاصر هذه الأحداث التاريخية المهمة ولا علق بعد ذلك على واقعة أخفاء تمثالى يوسف صديق، وعبد المنعم أمين من المتحف الحربى.
جاء فى كتاب حمروش فى وصفه للأيام الثلاثة السابقة للثورة، أن هاشم باشا وزير الدولة وزوج بنت حسين سرى باشا قد أجتمع سرا بمحمد نجيب وحاول أن يحتويه فعرض عليه تعيينه وزيراً للحربية، فلما رفض، أفهمه هاشم باشا أن السراى عندها أسماء 12 من الضباط الأحرار. وفى الصباح أبلغ نجيب جمال عبد الناصر، وعامر تفاصيل المقابلة فاجتمعت اللجنة القيادية وقررت فى نهاية الأمر أن تكون الحركة ليلة 22 - 23 يوليو.
واعطيت الخطة اسما كوديا "نصر" وتحددت ساعة الصفر فى منتصف الليل.
كان يوسف صديق تنزف الدماء من صدره فقد كان مريضا بالصدر، ولكنه أخذ حقنة أوقفت النزيف.. وأصبح فى حالة عالية.
وحدث خطأ بسيط ولكنه كان عظيم الأثر.
تصور يوسف صديق! أن ساعة الصفر هى 2300 (أى الحادية عشرة مساء) وليست منتصف الليل.
كان يوسف صديق قائداً ثانيا لكتيبة مدافع الماكينة، ولم يخف يوسف الموقف على ضباطه ولا جنوده، خطب فيهم قبل التحرك وقال لهم أنهم سيفخرون بما سينجزون فى هذه الليلة.
تحركت القوة من معسكر (هايكستب) دون أن تدرى عما يدور فى مركز قيادة الجيش.
كان يوسف صديق راكبا عربة جيب فى مقدمة طابور عربات الكتيبة المليئة بالجنود وفى الطريق فوجئ باللواء عبد الرحمن مكى قائد الفرقة يقترب من المعسكر فاعتقله وعند أوائل مصر الجديدة أعتقل أيضا الأميرالاى عبد الرءوف عابدين قائد الفرقة الذى كان يسرع بدوره للسيطرة على معسكر الهايكستب. وركب الأثنان (المعتقلان) فى عربتهما والمدافع موجهة عليهما من العربات الأخرى. والعلم يرفرف على مقدمة العربة.
ولم تقف الاعتقالات عند هذا الحد فقد فوجئ ببعض الجنود يلتفون حول اثنين تبين أنهما جمال عبد الناصر وعامر، وكانا حسب رواية يوسف فى ملابس مدنية.
ولما أستفسر يوسف صديق عن سر وجودهما أبلغاه بالموقف فى رئاسة الجيش، وهنا أعد يوسف خطة تقضى بمهاجمة رئاسة الجيش.
كانت قواته هى الوحيدة التى تتحرك فى شوارع القاهرة وهى الوحيدة التى تتحرك فى جرأة نحو مركز رئاسة الجيش.
وكانت الخطة التى وضعها يوسف للاقتحام بسيطة.. فصيلة تقطع الطريق عند مستشفى الجيش أمام كوبرى السيوفى أمام سلاح خدمة الجيش وبقية القوة تقتحم الرياسة بلا احتياطى.
وفى أثناء نزول الجنود من عرباتهم ظهر الأميرالاى (العميد) أحمد سيف اليزل خليفة، فكان ثالث المعتقلين وترك سائقه حارسا عليه وعنده أوامر باطلاق النار.
واقتحم يوسف صديق وجنوده مبنى القيادة وفتشوا الدور الأرضى وكان خاليا، وعندما أرادوا الصعود الى الطابق الأعلى اعترض طريقهم جاويش حذره يوسف ولكنه أصر على موقفه فأطلق عليه طلقة أصابته فى قدمة شفى منها فيما بعد.
وعندما حاول فتح غرفة القيادة، وجد خلف بابها مقاومة فأطلق جنودة الرصاص على الباب، ثم اقتحموا الغرفة وهناك كان يقف اللواء حسين فريد رئيس أركان حرب الجيش واللواء حمدى هيبة، وضابط آخر يرفع منديلا أبيض طلب منهم أن يتحركوا حيث سلمهم لليوزباشى (نقيب) عبد المجيد شديد ليذهب بهم إلى معسكر الاعتقال المعد حسب الخطة فى مبنى الكلية الحربية.
وفى هذه اللحظة وصل ضابط ومعه 50 جنديا كل منهم يحمل مائة طلقه بناء على استدعاء رئاسة الجيش (الملكى) قبل أن تسقط فضمهم يوسف الى قواته بعد أن عين عليهم قائدا من ضباطه.
وأخيراً جلس يوسف ليستنشق أنفاسه مع ضباطه فى مكتب هيئة أركان حرب الجيش.
لم يكن جلوس يوسف صديق على مقعد رئيس أركان حرب الجيش يعنى أن الحركة قد انتصرت أذ أن الخطة قد نفذت، ولكنه كان يعنى أن أخطر مركز يستطيع أن يعطى أوامر مضادة لحركة الضباط الأحرار.
كانت جرأة يوسف صديق وبسالته عاملا مرجحا لقوات الحركة.
هذا الرجل البطل الجسور ابن الشعب (يوسف منصور صديق) هو الذى اختفى من قاعة المتحف الحربى التى تضم اثنى عشر ضابطا اختفى أو أخفى يوسف صديق، وعبد المنعم أمين، لا أدرى ما هى الدوافع التى أدت الى اتخاذ مثل هذا القرار، هل لأنه كان يساريا وعضوا فى تنظيم شيوعى (حدتو)؟ فهذا ينطبق على خالد محى الدين أيضاً. أم لأنه أختلف مع مجلس قيادة الثورة، فى أزمة 53 وطالب بإقرار الحكم الديمقراطى؟ طرد من المجلس ونفى خارج البلاد، وداخلها. وقبض على زوجته الفاضلة (علية توفيق) وأودعت السجن؟ أيا كان الرأى فى يوسف فواقعة تواجده واقتحامه الجرىء لمركز قيادة الجيش وعضويته لمجلس قيادة الثورة غير منكورة من أحد غير القائمين على كتابة التاريخ فى المتحف الحربى.
ولهذا أتوجه أولا الى الرئيس مبارك ليأمر بضم تمثال يوسف صديق، وعبد المنعم أمين، الذى لا أعرف دوره بالضبط، الى مجموعة مجلس قيادة الثورة. وأتوجه بالطلب الى المشير عبد الحليم أبو غزالة، القائد العام للقوات المساحة، الذى استنكر عندما زار المتحف الحربى، عدم وجود تمثال للفريق أول سعد الشاذلى كأحد أبطال حرب أكتوبر وطالب بوضع تمثال له، فواقعة اشتراكه فى الحرب وقيادته لها لا جدال فيها. حتى لو اختلفنا على تفسير المواقف والآراء بعد ذلك.
ولا بد للأمة أن تراجع تاريخها من آن لآخر، وأن تعرف أبطالها، وان تصحح معلوماتها وأن تضيف اليها أو تحذف منها، وإلا أصيبت بتصلب الشرايين وأصبحت فى حالة غيبوبة، وأن تسجل وقائع التاريخ كما حدثت بالضبط ثم تختلف فى تفسيرها والجدل حولها والا فاته عندما تفقد الدولة الصدق، وتلجأ الى التزييف، فان الجماهير يتفقد الثقة فيها وفى أقوالها ووعودها. والدولة يجب أن تكون القدوة الحسنة وخاصة فى كتابة التاريخ لأن من يزور الماضى، سيزور الحاضر، وسيفقد المستقبل.
ومازال السؤال معلقا: لماذا اختفى البطل يوسف صديق ولأى أسباب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق