البكباشى يوسف صديق بطل الديمقراطية وليلة 23 يوليو

بعد 58 عاما من النسيان ومتاخرا بنحو اربعين يوما عن الذكرى السنوية لرحيله، احتضنت نقابة الصحفيين أول إحتفال عام بذكرى البكباشى "يوسف صديق" بطل ليلة 23 يوليو 1952 بدون منازع، الرجل الذى قاد بجسارة ومتحملا آلام نزيف الرئة ستين ضابطا وجنديا من "الهاكستب" الى "القبة "بالقاهرة لسيتولى على قيادة الجيش (مقر وزارة الدفاع الآن) ويعتقل رئيس الأركان الفريق "حسين فريد".
ومع أن الرئيس "جمال عبد الناصر" تذكر فى عيد الثورة العاشر دوره الإستثنائى فى إنجاحها، إلا أنه لم يمنحه أى تكريم يليق، فقط فى العام التالى وتحديدا فى 12 أغسطس 1963 أصدر قرارا جمهوريا بمعاش إستثنائى له ولرفاقه فى مجلس قيادة الثورة "جمال سالم" و "خالد محيى الدين" و "عبد المنعم أمين"، ومن دون أن يسمح له طوال حكمة بالعمل العام أو بتولى أى منصب سياسى أو تنفيذى، بل قضى "صديق" سنوات من عهد "عبد الناصر" معتقلا (13 شهرا) أو حبيس الإقامة الجبرية، كما كان مبعدا خارج مصر لنحو ستة أشهر فى سويسرا ولبنان خلال عهد سلفه اللواء "محمد نجيب" أول رئيس لمصر.
ولما حكم "أنور السادات" ظل الرجل طى النسيان حتى وفاته فى 31 مارس 1975، وتقول لنا إبنته الكبرى السيدة "سهير" إنه لم يترك ميراثا: "لا عقارا ولا أموالا سائلة أو أرصدة فى البنوك.. حتى الشقة التى يسكنها كانت بالإيجار.. فقط اقتسمنا معاشه"، ولم يظفر إلا بجنازة عسكرية تغيب عنها الرئيس نفسه، وبرثاء فى الصحف يعيد جانبا من ذكراه المنسية، لكن من دون إشارة الى إضطهاد على أيدى رفاقه فى قيادة الثورة، واللافت أن الرئيسين "نجيب" و "السادات" بكياه بعد رحيله فى حضور أسرته وأبنائه، الأول على فراش المرض بمسكنه فى "كوبرى القبة" قبل وفاته عام 1984 بفترة قصيرة، وهو يقول: "يوسف حبيبى إبنى.. هو اللى عمل كل حاجة.. سامحنى"، والثانى فى قريته بميت أبو الكوم عام 1977، وهو يطالع متأخرا بثلاث سنوات رسالة كتبها الفقيد يوصيه فيها بالديمقراطية والفقراء بأبنائه (ثمانية من ثلاث زيجات).
وفى زمن الرئيس "حسنى مبارك" المديد لم تلتقت الدولة أيضا الى تكريمة، وظل إسمه غائبا عن إحتفالات ثورة يوليو كما هو عليه الحال فى عهدى "عبد الناصر" و "السادات" وحيث لم يدع خلال حياته لحضور أى منها، وزاد من ألم أسرته من طول الإنكار والتجاهل لأنها ظلت تنازع فى المحاكم لنحو تسع سنوات كى تنتزع حق بطل ليلة 23 يوليو فى إقامة تمثال له بالمتحف الحربى آسوة بزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة (14 عضوا)، وهذه القصة موضوع كتاب يصدر قريبا فى القاهرة بعنوان "تمثال البطل يوسف صديق".
لا يمكن فهم الجسارة الإستثنائية للبكباشى "صديق" حين وجه أول ضربة حاسمة للنظام الملكى ليلة 23 يوليو إلا بقراءة مذكراته التى صدرت عام 1999 وتحمل عنوان "ليلة ثورة يوليو: أوراق يوسف صديق"، فقد تميز بالاستقلالية وبالشجاعة فى مواجهة الفساد والإستبداد وبالعقلية النقدية خلال خدمته السابقة بالجيش أو إنتمائه لتنظيم "حدتو" الشويعى، حتى أنه استقال من الأخير فى أكتوبر عام 1951، وفكر فى الاستقالة من الجيش فى بداية عمله بالسلوم عام 1933، عندما اكتشف التلاعب بالمخصصات الغذائية للجنود، وتفيد رسائله إلى أسرته قبل الثورة والتى أطلعتنا عليها إبنته الكبرى "سهير" فى مسكنها بالدقى معاناته بسبب هذه الاستقامة سواء على مستوى الترقى الوظيفى أو الراتب.
واقع الحال، كان البكباشى "يوسف صديق" متفردا بين زملائه من الضباط الشبان فى مجلس قيادة الثورة، التحق بالكلية الحربية فى عام 1930 وقبل دفعة 1936 الشهيرة وما تلاها، وهى الدفعة التى فتحت الباب لأبناء صغار الموظفين والفلاحين محدودى الملكية، وبالأصل فإن الرجل سليل عائلة عسكرية، وكان أبوه وجده ضابطين بالجيش المصرى، ولعل فى ذلك ما يفسر براءته من إنكار الإنتماء الطبقى والإستعلاء، على أصوله الإجتماعية، أضف الى ذلك أنه كان شاعرا "ربا للسيف والقلم" كصاحب هذا اللقب الأميرالاى "محمود سامى البارودى" (1838 ، 1904) أحد أبطال الثورة العرابية، وتروى إبنته السيدة "سهير" أن هذا الشاعر مرهف الإحساس كان محبوبا من جنوده وصغار الضباط ومهموما بتثقيفهم وبعقد ندوات فى المعسكرات ليناقش معهم أعمالا أدبية وقضايا عامة، وهو أمر جر عليه أحيانا المشكلات، وعندما تضيف أنه كان مولعا ب"طه حسين"، صاحب "دعاء الكروان" و "شجرة البؤس" و "المعذبون فى الأرض" وغيرها من الأعمال الأدبية ذات الحس الإجتماعى والتوجه الديمقراطى قبل ثورة 1952، بإمكان المراقب أن يدرك مدى تميز تكوينه الثقافى عن أقرانه فى مجلس قيادة الثورة وبخاصة أولئك المولعين بتوفيق الحكيم صاحب "عودة الروح" والذى بشر حينها ب "المستبد العادل". 
ويلفت النظر أيضا فى شخصية "يوسف صديق" هذا التدين الشديد والإيمان بالقدر ونظرته التقدمية للإسلام ومن دون تعارض مع "الماركسية"، وعلى سبيل المثال وصف نفسه فى مذكراته عن ليلة 23 يوليو بأنه كان "على طريق الله"، وقال "رأيت الله وأنا أتجه للاستيلاء على مركز قيادة الجيش بالقبة"، وقال أيضا فى رسالة موجزة نشرتها بعد وفاته صحيفة "الجمهورية" فى 11 إبرايل 1975: "أسجد لله شكرا.. لقد كافأنى ربى سبحانه بمعجزة، فكانت حقنة واحدة أخذتها مضادة للنزيف كفيلة بشفائى رغم ما قمت به من مجهود جسمانى"، وفى جمع الرجل بين الماركسية والإسلام معا ما يفيد بشخصية جدلية الفكر، ولم يعش أسير الراحة لحياة الإنسان ذى البعد الواحد.
كان "يوسف صديق" أول من استقال من أعضاء مجلس قيادة الثورة وبعد نحو سبعة أشهر فقط من إنضمامه الى المجلس، وكان أول من إصطدم من أجل الديمقراطية وعودة الجيش الى ثكناته، ولا تعرف إبنته السيدة "سهير" أين يمكن العثور على وثيقة رسالة الإستقاله التى بعث بها والدها الى الرئيس "نجيب" فى فبراير 1952، لكنها تتذكرالثانى من اليسار فى اجتماع مجلس قيادة الثورة جيدا أن أبيها كان غير راض تماما على تنكر الضباط الأحرار لمبدأ "إقامة حياة ديمقراطية سليمة" وللوعد بتسليم البلاد الى حكم برلمانى مدنى بحلول شهر الإستقالة، وتضيف قائلة: "سخر أمامى وقتها من إدعاء المناوئين للديمقراطية بأنهم أغلبية داخل مجلس قيادة الثورة وكان يرى أن المجلس لا يمثل كل أفرع الجيش وليس منتخبا من الشعب"، وبالطبع هذه وجهة نظر مخالفة لعدد من المؤرخين مازالوا يعتبرون كل ما حدث فى أزمة مارس 1954 وقبلها بين الضباط الأحرار والقوى السياسية المدنية مجرد "صراع على السلطة ليس إلا إنتهى بتأمين استمرار الثورة"، كما يقول لنا الدكتور "عاصم الدسوقى".
إلا أن أرشيفات الصحف تحتفظ بعدد لمجلة "روز اليوسف" بتاريخ 29 مارس 1954 يتضمن حديثا مع "يوسف صديق" يشرح فيه اسباب الإستقالة، ومنها "إنحراف الثورة وإنتكاسها" وأن "مجلس الثورة خعه مستشارون مضللون" يعارضون عودة الحكم المدنى النيابى، فضلا عن اعتقال ضباط من سلاح المدفعية ثاروا على ذلك التوجه، وفى كلام الرجل الى جريدة "المصرى" لآل "أبو الفتح" قبلها بثلاثة أيام ما يشير بطرف خفى الى تسهيلات جرى منحها لرأس المال الأجنبى ولدور أمريكى، وفى يوم 24 مارس 1954 تنشر "المصرى" نص رسالة أخرى له موجهة الى الرئيس "نجيب" فى 17 من الشهر نفسه، وتتضمن اقتراح تشكيل حكومة إئتلافية تمثل التيارات السياسية المختلفة من وفد وإخوان وإشتراكيين وشيوعيين تشرف على إجراء انتخابات برلمانية تعيد الجيش الى ثكناته، واقترح عضو مجلس الثورة المستقيل أن يرأس الحكومة الائتلافية الفقية الليبرالى "وحيد رأفت" العضو الوحيد فى مجلس الدولة الذى رأى دستورية دعوة برلمان ما قبل الثورة للانعقاد ضد تسعة أعضاء.
ودفع "صديق" ثمن موقفه سريعا، وهذه المرة تجاوز الأمر عقوبة الإبعاد للخارج أو الى "أسوان" وتحديد الإقامة فى الداخل، وجرى أعتقاله بعدها بأيام فضلا عن أقاربه ومن بينهم المحامى والشاعر "محمود توفيق" زوج إبنته السيدة "سهير" والذى أمضى خمس سنوات فى السجن، وتقول: "ظل أبى فى السجن 13 شهرا، إنتقل من سجن الأجانب إلى السجن الحربى رفض أن يحققوا معه ورفض أن يكتب أى التماس الى الرئيس "عبد الناصر".. وعندما كنت أقوم بزيارته أسبوعيا يحدثنى عن تعذيب وحشى يتعرض له معتقلو جماعة "الإخوان" خاصة، ولأن لدية امتياز الإحتفاظ براديو (ترانزستور) فقد كان يكتب نشرة يومية بالأخبار من أربعة نسخ بعدد عنابر السجن.. كما كان يحملنى خفيه كيسا يضم عشرات من رسائل المعتقلين الى ذويهم لأرسلها بدورى بالبريد"، ومع التعاطف الإنسانى تجاه معتقلى "الأخوان"، إلا أن الرجل وفق إبنته الكبرى ظل يحمل الجماعة مسئولية ما إنتهت إليه الثورة من تنكر للديمقراطية عندما تحالفت فى البداية مع انصار "الديكتاتورية" ولقد كان موقفه المعارض لإعدام "خميس" و "البقرى" قادة إضراب عمال مصانع "كفر الدوار" فى سبتمبر 1952 بعد محاكمة عسكرية على نقيض موقف "الإخوان".
خرج بطل ثورة 52 من السجن قبل نحو عام من العدوان الثلاثى نهاية عام 1956، وأبقوه رهن الإقامة الجبرية فى "عزبة النخل"، ومع العدوان خرج ليقود المقاومة الشعبية فى منطقته، ومع انه كتب قصيدة قاسية ضد "عبد الناصر" فى السجن الحربى بعنوان "فرعون"، إلا انه سعى لمقابلته عندما أعلن تنحيه فى 9 يونيو عام 1967 وقال له وفق رواية السيدة "سهير": "خسرنا المعركة لكننا لم نخسر الحرب.. والحروب كر وفر"، ولعل آخر لحظات السعادة العامة هى عندما "عبرنا قناة السويس فى حرب أكتوبر 1973" كما تقول إبنته، لكن الرجل كان قد توقف تماما عن كتابة الشعر منذ آخر قصيدة له فى رثاء "عبد الناصر" عام 1970 بعنوان "دمعة على البطل".
اللافت أن مذكرات "يوسف صديق" تتوقف عند نهاية ليلة 23 يوليو، كما لا تتطرق لمشاركته فى مهمة تنازل الملك "فاروق" عن العرش وإجباره على الرحيل من الإسكندرية بعدها بثلاثة أيام فقط، وتقول إبنته السيهدة "سهير" أن والدها كتب مذكراته هذه فى عقد الستينات ولم يفكر فى نشرها.
أما القيادى اليسارى "عبد الغفار شكر" فيروى أن أحد أقرباء "صديق" أبلغه بأن الرجل كان يتجنب الحديث عن ماضيه السياسى حتى مع المقربين منه، علما بأنه استقال من الجيش فى أغسطس 1953 وظل بلا عمل حتى وفاته، ولم تتحقق رغبته فى تولى مسئولية "دار الكتب" أو أن يترشح لعضوية مجلس الأمة (البرلمان) عام 1975 ولا يجد "شكر"، وهو أحد مؤسسى حزب "التجمع" اليسارى وقياديه السابقين، تفسيرا لكون الحزب أهمل الاحتفال بذكراها منذ تأسيسة منبرا لليسار عام 1976، ويبدو أن الرجل ظل منسيا حتى من رفاقه القدامى فى "حدتو" والتى انتسب اليها أيضا مؤسس الحزب ورئيسه السابق وعضو مجلس قيادة الثورة المنادى بالديمقراطية فى أزمة مارس 1954 الأستاذ "خالد محيى الدين" (89 عاما)، أمد الله فى عمره ومتعه بالصحة.
ومع ثورة 25 يناير 2011 وبمناسبة أول أحتفال عام ب "يوسف صديق" فى نقابة الصحفيين يحق للمصريين أن يتذكروا آخر جملة قالها فى حديث للصحافة (روزا اليوسف 29 مارس 1954): "أكتب على لسانى استخدامه ضد الشعب أو لمصلحة فرد أو أفراد وإنه سيكون دائما وأبدا جيش الشعب وفى خدمة الشعب فحسب".
وبعد وفاته بأكثر من 16 عاما اعتذر الأستاذ "مصطفى أمين" للراحل "يوسف صديق" فى عاموده "فكرة بجريدة "الأخبار" 28 مارس 1991 عن وقوفه ضده فى عام 1954، قال عنه "كان على حق وكنت على خطأ.. إنه بطل.. ورجل تحمل ما لا يتحمله بشر".
وقال أيضا: "من حق هذا الرجل أن نطلق اسمه على الشارع الذى أطلق فيه الرصاصة الأولى للثورة" (شارع الخليفة المأمون).
لا يحمل إسم "يوسف صديق" "البكباشى" (المقدم) قبل ثورة 1952 و "القائمقام" (العقيد) بعدها أى وسام أو نوط عسكرى أو قلادة جمهورية أو حتى شهادة تقدير، كما أن أيا من معالم العاصمة الى هذه اللحظة لا يخلد ذكرى بطل ثورة 1952 الجسور وصاحب الفضل فى إنجاحها ولإقامة الجمهورية.
أما الكتاب الوحيد الذى يروى ذكرياته عن ليلة الثورة التى كان يفخر بأنها "ليلة عمره" فقد نفذ من المكتبات، ومع سعادة إبنته السيدة "سهير" بأول إحتفال عام بأبيها بعد أكثر من 58 عاما من فجر 23 يوليو 1952 لا تنسى أن تقول: "ظلموه حياً وميتاً".
لكن الوفاء الأكبر لذكراه يظل هو الإخلاص للديمقراطية والشعب.
كارم يحيى
الأهرام
20 مايو 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق