بالتزامن مع احتفالات مصرية بمرور مائة يوم على ثورة يناير 2011، بادرت نقابة الصحفيين بإحياء الذكرى المئوية لميلاد القائمقام "يوسف صديق" الذى ساقته الأقدار ليصنع ليلة 23 يوليو 1952، إذ لولاه لأجهضت قبل أن يشرق صباح اليوم التالى، وما أن استتبت الأوضاع لقيادات حركة الجيش.. إلا وكان بطلها هو أول الأبناء التى أكلتهم (الثورة) فى فبراير 1953، حين تمسك بالديمقراطية منهاجا للحكم.. داعيا إلى عودة الجيش إلى ثكناته، ليجرى التنكيل به.. من المنفى إلى الإقامة الجبرية انتهاء بأعتقاله وأهل بيته، فما كان منه إلا أن عض على جرحه إلى أن رحل عن دنيانا 1975، تاركاً للأجيال من بعده، بإقدامه وتعففه على حد سيان، نموذجاً يحتذى فى التضحية والإيثار وحب الأوطان، فلا غرو أن يصبح الاستثناء من رجالات يوليو المحتفى بطهارته الثورية فى وجدان العقل الجمعى المصرى.. حتى إنه كان الحاضر الغائب فى خضم أحداث ثورة يناير التى رفعت "الديمقراطية" فى صدر أولوياتها، وكأنها بذلك تضع زهرة فوق ثراه فى مئوية ذاكراه.. جزاء وفاقاً لتضحياته من أجل نفس الغاية "الديمقراطية" منذ نيف وخمسين عاماً، ومصداقا للقول بأنه لا يصح فى النهاية إلا الصحيح، وبأن الزبد يذهب جفاء.. أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
فى سياق مواز، قد يقول قائل من كثر، إن ثورتى 1919 ويوليو فى نجحتا لوجود قيادة لكلتيهما، فى حين أن صنوتهما فى يناير.. ربما يضيع منها الطريق لافتقادها "قيادة" تحدد أهدافها وسبل تحقيقها، ويغيب عن أولئك.. بأن الثورتين السابقتين مطلع العشرينيات والخمسينيات.. إنما أفضتا برغم تعدد قياداتهما إلى الانقسام والتصارع حول صدارة السلطة ومغانمها مما أدى إلى اخفاقاتها المشهودة(..) حتى سقوط نظاميهما على التوالى، الأمر الذى لم يكن ليحدث لو أنهما أسلمتا قيادة الثورة إلى رموز وأدبيات وتيار الحركة الوطنية المصرية التى من نضالها تقوم الثورات.. وإليها تعود، مما قد يحسب -عن غير عمد- لثورة يناير 2011.. وليس ضدها.
ولما كانت إقامة نظام ديمقراطى حر.. مسألة تحتاج إلى نقاش واسع ومعمق، فلا يجوز إذن استعجال نتائجها أو رمى الثورات التى قامت من أجلها بالفشل.. لمجرد التريث فى تأكيد مضامين الديمقراطية ومعطياتها، خاصة أن الثورات عادة ما تطيح بصورة من صور الطغيان لاستبدالها بصورة أخرى من الطغيان على أيدى قادتها، إما عن طريق جنرال ينصب نفسه حاكما مطلقاً وإما إلى دولة بوليسية مكتملة الأركان، وإما إلى خفض الحريات والنمو الاقتصادى فى ظل تفرق دماء "الديمقراطية" على مذبح تصارع قيادات هذه الثورة أو تلك، مما تصبح عندئذ أشبه بمن يحرث فى البحر.
إن أعظم ما فى ثورة يناير المصرية، رغم عثراتها المؤقته، أن مفجريها من الشباب وطوائف شعبية ومن الجيش، قد أسلموا قياداتها بعد أن أسقطوا النظام السابق، إلى الحركة الوطنية المصرية -بغثها وسمينها- موكلين أهدافها إلى السلطات الأساسية الثلاث للدولة، لئلا تبقى الثورة سيفا مسلطا على رقاب العباد إلا بالحق والعدل والقانون، وحيث من المؤكد حينها أن تنجو من مصير ثورات آفلة.. باتت على أيدى قياداتها.. سيئة السمعة.
وبالعودة إلى "يوسف صديق" فإن وجاهة تفرده الوطنى.. ليس فحسب لدعوته إلى الديمقراطية.. أو لعودة الجيش إلى عمله الأصلى بعيداً عن السياسة، بل لأنه تفوق على أطماع النفس وشهوة السلطة، ليستحق أن يكون نبراسا يشارك إليه بوصفه فتى الفتيان للثورة المصرية.
شريف عطية
جريدة المال
10 مايو 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق