لاحظت زوجته أنه كان منفعلا بشدة وفى عنيه بريق غريب، وشعره مهوش والبوشيرت الرسمى الذى يرتديه مفتوح الصدر على غير العادة وكأنه ذهب إلى معركة حربية.. فقالت له مازحه: "مالك يا يوسف عامل كده! ماتكونش رايح تفتح عكا؟" فاستدار عائدا إليها بعد أن كان قد هبط سلم التراس، ثم سألها باستغراب عما قالته، وعندما أعادته عليه مرة أخرى، رد عليها بجدية شديدة قائلا: "نعم.. سأفتحها".. ثم تركها وانصرف!.
كان هذا المشهد يوم 22 يوليو عام 1952، أما بطلة الذى كان ذاهبا لفتح عكا كما أخبر زوجته، فهو البكباشى الشاعر يوسف صديق، الذى كان خارجا للمشاركة فى حركة الضباط الأحرار بالجيش التى عرفت بعد ذلك بالثورة، وكان دوره فى الخطة هامشيا جدا، ينحصر فى الحضور بقوته الصغيرة إلى رئاسة الجيش بعد احتلالها، ويصحب معه 40 عربه "لورى".. لكن القدر شاء أن يكون له الدور الرئيسى الذى أنقذ الثورة من الفشل، وأنقذ قادتها والمخططين لها من الإعدام!.
لذلك لم يكن غريبا، كما روى محمد نجيب فى مذكراته، أن يصفق له ضباط الثورة وقوفا لأنه سبق الجميع واقتحم قيادة الجيش وألقى القبض على رئيس أركان الجيش فى مكتبه ومعظم القواد الذين كانوا فى طريقهم إلى رئاسة الجيش للقضاء على حركة الضباط الأحرار بعد انكشاف أمرها للملك الذى كان "يصيف" وقتها فى الإسكندرية، ورغم ذلك لا أحد يعرف يوسف صديق ودوره، ويجهل كثيرون أنه كان من أعضاء مجلس قيادة الثورة قبل أن يستقيل اعتراضا على انحراف الثورة عن مبادئها!.
ويوسف منصور صديق، ولد يوم الثالث من يناير 1910 فى قرية زاوية المصلوب بمركز الواسطى فى محافظة بنى سويف، وكان أبوه ضابطا بالجيش المصرى، وكثيرا ما اصطدم بقادة الجيش من الإنجليز أثناء خدمته فى السودان، وقد توفى قبل أن يكمل ابنه يوسف عامه الأول، ليتولى بعد ذلك الخال محمد توفيق على تربية الطفل يوسف، وكان هو الآخر ضابطا بالجيش وشاعرا مطبوعا فتأثر يوسف به وبأفكاره كثيرا، وقد لعب خاله دورا كبيرا فى تشكيل شخصيته الثائرة، المتحررة، الشاعرة.
وقد تقلب يوسف صديق بين عدد من التيارات المختلفة إلى حد التناقض.. فقد بدأ حياته بالانضمام إلى الوفد.. لكنه تراجع لأن الوفد بدأ يفقد شعبيته بعد سعد زغلول، ودفعته طبيعته الريفية المتمسكة بالدين الى الاتصال بالإخوان المسلمين.. لكن علاقته بهم لم تستمر طويلا لأنه رأى أنهم لم يكونوا منظمين تنظيما عصريا مقبولا، بعد ذلك لجأ إلى جماعة مصر الفتاة لكن مسيرته معهم لم تطل.. ولم يجد أمامه بعد ذلك إلا الشيوعيين، الذين كانوا أقرب الاتجاهات الثائرة على الأوضاع إلى قلبه -كما يقول فى مذكراته- لكنه رغم ذلك تركها عام 1951 لأنهم انقسموا على أنفسهم حتى وصل عدد منظماتهم عند قيام الثورة إلى عشر منظمات، وفى أكتوبر سنة 1951 انضم إلى الضباط الأحرار بعد أن زاره الضابط وحيد رمضان ودعاه للانضمام إلى الحركة.
وكانت ليلة الثورة بالنسبة له هى ليلة العمر.. تلك التى جعلته سببا فى تغيير وجه التاريخ، ليس فى مصر وحدها ولكن فى المنطقة كلها، كانت ليلة كالحلم.. يقول عنها فى مذكراته: شاء الله أن يكون أضعف خلقه فى تلك الليلة هو الذى يقوم بالدور الذى يقضى على كل المقاومات التى تعرضت لها الثورة.. فقد كنت فى تلك الليلة ضعيف الصحة حيث كنت أعانى من نزيف فى رئتى اليسرى، وكان حفاظى على صحتى يتطلب الراحة التامة وعدم الحركة -بل عدم الكلام- فهكذا كنت أعالج من النزيف فى السنتين السابقتين، ثم كانت قوتى أضعف قوة على أرض العمليات، حيث كانت عبارة عن مقدمة الكتيبة وهى تعتبر قوة عسكرية إدارية تسبق القوة الرئيسية إلى مكان انتقالها الجديد لتتسلم المعسكر وتهيئة للإعاشة، وطبيعة عملها تجعل تسليحها خفيفا لأنها ليست قوة مقاتلة ومعظم جنودها من الحرفيين كالطباخين والنجارين والموسيقيين وغيرها من الأعمال الفنية اللازمة لحياة الجيش.
ومع كل أسباب الضعف التى توافرت فى تلك الليلة أراد الله أن أكون بكل أسباب ضعفى السهم القاتل الذى صوب إلى صدور أعداء الثورة فكان يرديهم تباعاً فى الوقت المناسب.
وقد اشتهر يوسف صديق بعد ذلك بأنه الضابط الذى أخطأ فخرج مبكرا عن موعده ساعة كاملة -وقيل ساعتين!- لينقذ الثورة من الفشل، وانتشرت رواية هدفها الإساءة إلى يوسف صديق تقول إنه كان ثملا فلم يستطع تمييز عقرب الدقائق من عقرب الثوانى فى ساعته فتحرك مبكرا، وهى رواية ساذجة صدقها بعض المؤرخين، والحقيقة يذكرها يوسف صديق فى مذكراته، قائلا: بقينا فى المعسكر وانهمك الضباط فى أحاديث شتى حتى وصل رسول القيادة الضابط زغلول عبد الرحمن، وكان يحمل معه بطيخة كبيرة لم يجد الضباط سكينا لقطعها فاستعملوا الونكى فى ذلك، وبينما هم منهمكون فى تقطيع البطيخة وتوزيعها انفرد بى زغلول وأفضى إلى بآخر الأوامر، وكانت تحتوى على ساعة الصفر (منتصف الليل) وكلمة السر (نصر).. كانت هذه هى الرسالة التى حلمها زغلول إلى.. أو التى سمعتها منه.. أو التى شاء الله أن أسمعها منه على هذا النحو، وقابلت زغلول كثيرا بعد ذلك وبعد نجاح الثورة فكنت أسأله عن حقيقة ساعة الصفر التى بلغها لى فكان يبتسم ولا يجيب.
هذه هى رواية يوسف صديق عما حدث ليلة 23 يوليو فى المعسكر، حيث خرج مبكرا ساعة كاملة كانت سببا فى أن يعيش ليلة كحلم أسطورى لم يكن يتخيله.. لكن هذه الليلة الحلم، سرعان ما تحولت إلى كابوس، حيث أصبح يوسف صديق من أوائل ضحايا الثورة بعد ظهور الخلافات وبروز المطامع والرغبة فى السيطرة والنفوذ.. وعن أسباب اختلافه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، يقول محمد نجيب فى مذكراته: إن يوسف صديق كان شديد الوضوح فى معارضته لقانون تنظيم الأحزاب ولضرب الوفد على غير أساس ديمقراطى، وكان يدعو للتمسك بالدستور ودعوة البرلمان المنحل للانعقاد لتعيين مجلس الوصاية... كما أنه كان شديد الثورة والرفض لاعتقال الزعماء السياسيين دون اتهام، وطالب كثيرا بإلغاء الرقابة على الصحف وتكوين اتحاد عام للعمال.
وتوالت الضربات الموجهة ضد بطل الثورة بعد ذلك.. فقد أبعد فى البداية إلى أسوان، ثم إلى سويسرا بحجة علاجه، وكما تقول ابنته الكبرى سهير التى عاشت كثيرا من الأحداث التى سبقت ليلة العمر فى حياة والدها، وإن يوسف صديق كتب مقالا مطولا فى جريدة "المصرى" عام 1954 مطالبا بالديمقراطية، فأعتقلوه وأودعوه السجن الحربى، كما اعتقلوا زوجته عليه توفيق وزوج ابنته محمود توفيق، فكتب قصيدة بعنوان: "فرعون" ضد جمال عبد الناصر، ثم كتب قصيدة "المجد الزائل" انتقد فيها مجلس قيادة الثورة وتقييدهم للحريات، وبعد خروجه من المعتقل عام 1955 شارك فى قيادة المقاومة الشعبية عام 1956 وكتب مقالات ساند فيها قرار عبد الناصر بتأميم القناة وبناء السد العالى وغيرها، وبعد وفاة عبد الناصر كتب قصيدة "دمعة على البطل" فى رثاء عبد الناصر الذى كان يحبه رغم ما فعله معه، وتضيف السيدة سهير صديق: الشئ الذى كان يؤلم والدى جدا هو يوم عيد الثورة عندما يجدهم جميعا مجتمعين على شاشات التليفزيون وبينهم من هرب ليلة الثورة، أما هو فكانوا يستكترون عليه إرسال دعوة لحضور احتفالات عيد الثورة التى أنقذها هو ورجاله.
وتستطرد قائلة: أبى ظلم حياً وميتاً، حيث زرت المتحف الحربى عام 1995 ولم أجد له تمثالا مع قيادات تنظيم الضباط الأحرار، فأقمت أنا وزوجى محمود توفيق دعوى قضائية ضد وزيرى الدفاع والثقافة طالبنا فيها بحق يوسف صديق فى أن يكون له تمثال مع مجلس قيادة الثورة، وقد أنصفنا القضاء وبالفعل وضع تمثال من البرونز ليوسف صديق فى المتحف الحربى عام 2001.
ويكشف اللواء توفيق محمد توفيق عضو مجلس الشورى وابن شقيق زوجة يوسف صديق الثانية، عن جانب جديد فى أحداث ليلة الثورة، وتحديداً بعد أن التقى يوسف صديق بجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر اللذين اعتقلهما الجنود، ثم علم منهما بانكشاف أمر الضباط الأحرار، وقرر اقتحام رئاسة الجيش، يقول اللواء توفيق: لم تكن هناك خطة محددة لاقتحام مقر قيادة الجيش، فرسم الخطة على خلفية علبة سجائر فارغة لعدم وجود ورق معه يرسم عليه الخطة سويعا لاقتحام القيادة.
ويكشف اللواء توفيق جانبا آخر، حين يقول إن يوسف صديق تزوج ثلاث مرات -المعروف أنه تزوج مرتين فقط- حيث تزوج للمرة الأولى من السيدة توحيدة صبرى الحكيم وأنجب منها أحمد ومحمد ومحمود وسهير، أما الزوجة الثانية فكانت السيدة عليه توفيق التى كانت تعرف تفاصيل اجتماعاته مع الضباط الأحرار ونصحته بعدم ركن سياراتهم جميعا بجوار المنزل حتى لا يكشفوا عن اجتماعاتهم، وأنجب منها حسين ونعمة، أما الزوجة الثالثة فهى دولت هانم وأنجب منها ليلى وسحر.
وعن الأيام الأخيرة فى حياة يوسف صديق يقول اللواء توفيق توفيق: أثناء تحديد إقامته تفرغ لمتابعة أحوال مصر ولأشعاره حتى تمكنت منه أمراض السكر وسل العظام والسرطان، فذهب إلى الاتحاد السوفييتى السابق للعلاج، ثم قطع رحلة علاجه وعاد ليشارك الشعب حزنه على رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، وفى يوم 31 مارس 1975 توفى البطل يوسف صديق وشيعت جنازته رسمياً وشعبياً، حيث شارك فيها رفاقه من الضباط الأحرار باستثناء الرئيس الراحل أنور السادات الذى أرسل نائبة -وقتها- حسنى مبارك نيابة عنه.
أحمد كمال زكى
بمشاركة
إيمان محجوب - أحمد النحاس
صوت الأمة
2009/7/25
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق